استوكهولم | أعلنت وزارة العدل في استوكهولم، أخيراً، أن الحكومة السويدية وافقت على تسليم مواطن تركي لجأ إليها، إلى حكومة بلاده، بناءً على طلب الأخيرة. وتُعدّ هذه أوّل خطوة قانونية من نوعها منذ أن طالبت تركيا، المملكة الإسكندنافية، بطرد عشرات «الإرهابيين»، كثمن للموافقة على طلب عضويّتها في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب على المزيد من عمليات تسليم المطلوبين خلال الأسابيع المقبلة. وحاول وزير العدل السويدي، مورغان يوهانسون، التقليل من قيمة قرار التسليم ورمزيّته، بقوله للصحافة إن «هذه مسألة طبيعية وروتينية... وقد نظرت المحكمة العليا في هذه القضية، كالعادة، وخلصت إلى أنه لا توجد عقبات أمام التسليم». لكن تلك بدت محاولة يائسة لتغطية الوجه الحقيقي للنُخبة السويدية الحاكمة، وادّعاءاتها بدعم "حقوق الإنسان" و"تحقيق السلام"، ومعاداتها المزعومة للأنظمة "غير الديموقراطية".وفي الحقيقة، فإن السويد التي دائماً ما يروَّج لها في وسائل الإعلام الغربية بوصفها "جنّة الرفاهية" الإسكندنافية، ودولة مساواة طوباوية، ونموذجاً للطريق الثالث من التعايش البنّاء بين الرأسمالية والاشتراكية، هي اليوم واحدة من أكثر البلدان التي تتراجع فيها العدالة الاجتماعية، حيث تتفاوت الدخول فيها أكثر ممّا تفعل في نيجيريا والفيليبين وهايتي والولايات المتحدة، وتَحكمها طبقة من الأثرياء المُسلِّمين لرغبات المركز الرأسمالي الأميركي. وبحسب مراجعةٍ لكتاب «سويد الجشع: كيف أصبحت دولة الرفاهية جنّة للأثرياء الفاحشين» للصحافي الاقتصادي أندرياس سيرفينكا، أجراها نيكي برودين لارسون تحت عنوان «حقيقة الرأسمالية السويدية» في موقع «الدفاع عن الماركسية»، فقد جمع مليارديرات السويد أكبر ثروة قياساً إلى الناتج المحلّي الإجمالي مقارنة بدول العالم الأخرى، فيما عالجت النُخبة الحاكمة الأزمات الثلاث الكبرى الأخيرة - أزمة التسعينيات، والأزمة المالية العالمية 2008، والأزمة الأحدث الناجمة عن "كوفيد 19" - بإجراءات تضمّنت حزم إغاثة هائلة وخفضاً لأسعار فوائد الاقتراض، كان المستفيد منها أساساً الأثرياء. وفي الوقت نفسه، بذل السياسيون في السلطة قصارى جهدهم لتمكين هؤلاء من تعظيم ثرواتهم، عبر إلغاء الضرائب المفروضة على الميراث والهدايا والعقارات ورأس المال.
وينتمي أولئك المسؤولون، وفقاً للمصدر عيْنه المذكور أعلاه، إلى مختلف أطراف الطيف السياسي في المملكة: الاشتراكيّون الديموقراطيون غوران بيرسون (رئيس الوزراء من 1996 إلى 2006، وهو الآن رئيس مجلس إدارة سويدبنك)، وبيورن روزنغرن، وبار نودر (وزير المالية ما بين 2004 و2006)؛ والمحافظان أندرس بورغ (وزير المالية 2006-2014) وفريدريك راينفيلدت (رئيس الوزراء 2006 - 2014). كما ينتمي هؤلاء إلى أغنى 0.5 في المئة من السويديين، حيث تتلاشى الفروق تماماً بين الدولة ورأس المال. ونتيجة لتلك السياسات، ارتفع عدد المليارديرات في المملكة من 28 مليارديراً في عام 1996 إلى 542 اليوم، وهم يسيطرون معاً على 68 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، أي ما يزيد بثلاثين ضعفاً عمّا كان عليه في عام 1996، علماً أن هذا الرقم قد تضاعَف في العامَين الماضيَين وحدهما، كما يَذكر لارسون، لافتاً إلى أنه وفقاً لـ"معامل جيني" (الذي يقيس مستوى العدالة الاقتصادية في المجتمعات)، تحتلّ السويد المرتبة الثانية عشرة في العالم لناحية غياب العدالة. وعندما يتعلّق الأمر بعدد المليارديرات لكلّ مليون نسمة، فهي تحوز المرتبة السادسة في العالم بثمانية مليارديرات مقابل كلّ مليون مواطن. وفي المقابل، فإن نصيب الفرد من النموّ الاقتصادي بلغ 0.4 في المئة فقط سنوياً طوال الفترة من 2007 إلى 2020، وأغلب السويديين العاديين لديهم الآن ديون أكثر من الأصول التي يمتلكونها.
تهرب النخبة السويدية من مواجهة طبقتها العاملة عبر زراعة الاستقطاب بين مكوّنات المجتمع


وطبقاً للمراجعة نفسها، فقد تَركّز النموّ الاقتصادي في البلاد، طوال العقود الثلاثة الأخيرة، على تجارة الأسهم والمضاربات المالية وشركات التكنولوجيا الجديدة (المشكوك في قيمتها الفعلية) وسوق المراهنات وصالات القمار وتجارة العقارات، فيما كانت معظم قطاعات الاقتصاد الحقيقي تعاني. ويُعتقد أن 70 في المئة من مليارديرات السويد جنوا ثرواتهم من الاستثمار في قطاع العقارات المخصّصة للتأجير للحكومة بأضعاف أسعارها الحقيقية، فيما تَجنّب هؤلاء بشكل منهجي توفير شقق جديدة بأسعار معتدلة، ممّا ضاعف من تكلفة السكن. وتُحقّق البنوك السويدية معظم أرباحها الطائلة خلال مدفوعات الفائدة على قروض الشقق، إضافة إلى القروض الاستهلاكية. وينتهي الأمر بواحد من كلّ خمسة عملاء لشركات الائتمان الاستهلاكي في السويد إلى الإفلاس، لأنهم غير قادرين على تحمُّل تكاليف السداد. واليوم، يبلغ إجمالي الديون (الخاصة والعامة) في البلاد 313 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، أي ما يقرب من ضِعف الرقم المسجَّل في عام 2005، ويتجاوز الآن كلّاً من الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا وإسبانيا، ممّا يضع السويد بالقرب من القمّة عالمياً في هذا المجال.
وتهرب النخبة السويدية من مواجهة طبقتها العاملة عبر زراعة الاستقطاب بين مكوّنات المجتمع. وأصبحت الأحزاب المحافظة التقليدية ذاتها متطرّفة، كونها تستعير اللغة والاستراتيجيات من اليمين المتطرّف، ولا تتوانى عن توفير المناخ للأحزاب الداعية إلى العنف ومعاداة المهاجرين. وفي 6 تموز، نفّذ رجل تحوّل إلى ناشط في "حركة المقاومة الإسكندنافية" الجديدة، اعتداءً علنياً في قلْب مهرجان سياسيّ مفتوح، طاول الضحية إنغ ماري فيزلغرين، وهي ناشطة في قضايا الرعاية الصحّية، تعرّضت للطعن في حلقها، ونزفت حتى الموت أمام أنظار آلاف المشاهدين. لكن ذلك لم يمنع طرفَي النخبة السياسية السويدية (الاشتراكيون الديموقراطيون - يسار -، وحلفاؤهم الديمقراطيون المسيحيون والليبراليون كما المحافظون - يمين -) من إضفاء مزيد من الشرعية على "حزب الديموقراطيين" اليميني المتطرّف، الذي يطرح سياسات عدوانية بشأن الهجرة، ويعارض كافة أشكال الاندماج العِرقي في المجتمع السويدي. وتثير النخبة، لا سيما منها "الليبراليون"، الكثير من الضجيج حول حقوق المواطنين المثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين، فيما يتجنّب الجميع تقريباً طرح أيّ من القضايا الحقيقية للمواطن السويدي.
قرار استوكهولم الشروع في تسليم اللاجئين الأتراك لحكومة أنقرة، ومقتل الناشطة فيزلغرين، وانخراط السويد بحماسة منقطعة النظير في الحملة الغربية على روسيا، ليست جميعها سوى معالم لنسق مستدام ومتجذّر في سلوكيات النُخبة الحاكمة في هذا البلد