«قضية واحدة تبْقى الأعزّ على قلبي، هي التي تتمحور حول أولئك الذين لا يزالون يواجهون الصعوبات. أتساءل دائماً عمّا إذا كان لديهم ما يكفي من الطعام، وما إذا كانت مساكنهم لا تزال جيّدة، وكيف يحتفلون برأس السنة وعيد الربيع (...). عملتُ بنفسي في الأرياف، وأُدرك تماماً معنى أن يكون المرء فقيراً».
الرئيس الصيني، شي جي بينغ، خلال زيارة إلى الريف الصيني عام 2022

منذ المؤتمر الثامن عشر لـ«الحزب الشيوعي» الصيني عام 2012، يزور شي جين بينغ الأرياف الصينية سنوياً، للتحدّث مع الناس والاطّلاع على ظروف عيْشهم، مؤكداً، سنة بعد سنة، أنه «خلال مسعى الجمهورية الشعبية الصينية لبناء حياة أفضل، ما من شخص أو عائلة أو إثنية، يجب أن تُترك في الخلف». هي الأرياف نفسها التي خرّجت شي ونحو 17 مليون شابٍ صيني، ممّن غادروا منازلهم واستغنوا عن حياة تسودها الرفاهية للذهاب إلى الأرياف النائية، حيث يعيش السكّان في الكهوف، في إطار جهود مؤسِّس الجمهورية الشعبية الصينية، ماو تسي تونغ، لإعادة تثقيف الشباب في الأرياف والنهوض بها. معظم هؤلاء أصبحوا، حالياً، يتولّون زمام «الشيوعي»، ويشْغلون مناصب رفيعة المستوى فيه. سيرة شي الذاتية وتاريخه النضالي يُعدّان من الأسباب الكثيرة التي تجعله، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، القائد الصيني الأقوى تاريخياً. ففي حين يصفُه بعض المراقبين بأنه «ابنُ الثورة، الذي وُلد وترعرع في بيئة شيوعية، ولكنّه مع ذلك، يفهم عامة الشعب»، يرى الجيل الذي واكب مراحل حياته صفاتٍ أعمق بكثير، تكاد تكون، على حدّ تعبيرهم، مفقودة لدى الجيل الصيني الصاعد. إذ يقول شيا باوتشينغ، ابن الـ66 عاماً، الذي أُرسل بدوره للعمل بالقرب من قرية ليانجياهي التي عمل فيها الرئيس، لـ«نيويورك تايمز»: «لا يستطيع سكّان بكين الذين لم يتمّ إرسالهم إلى الريف تحمُّل القدْر نفسه من المشقّة التي يتحمّلها مَن ذهب إلى هناك». ويتابع: «لدى الرئيس شي الكثير من الخصائص المكتسَبة من هناك. هو يشجّع التوفير ويدعو إلى تجنّب الهدر، ويتمتّع بقدْر هائل من الانضباط الذاتي».
قبل وصوله إلى السلطة، ساد تفاؤل بين العديد من المراقبين الغربيين، بصورة خاطئة، عن أن شي سيتبنّى نهجاً «إصلاحياً»، يرخي خلاله قبضته عن الحزب ويتماشى مع الولايات المتّحدة والغرب. بحسب صحيفة «ذا إكونوميست» البريطانية، أساء هؤلاء تقدير مدى تصميم الرئيس، آنذاك، على إبقاء الحزب متماسكاً، والقيام بكلّ هو ممكن لمنْع تفكيكه، انطلاقاً من فهمه للتغيّرات الكبيرة التي شهدتها الصين في العقود الماضية وما أنتجته من تحدّيات، وضرورة محاربة الفساد، وإبقاء صلات مع عامّة الشعب واحتياجاته لتجنّب قيام أيّ تحرّك شعبي ضدّ الحزب، ورغبته في جعل بلاده قوّة عظمى في مواجهة الغرب، وسط ترحيب شعبي كبير بأيّ «قائد قوي». ولمواجهة هذه التحدّيات، صمّم شي على الحدّ قدْر المستطاع من الاعتماد على الغرب في مختلف المجالات، والعودة إلى «طموحات المؤسِّسين الأوائل» من ناحية تحقيق العدالة الاجتماعية والرفاهية المشتركة.
يصفُه البعض بأنه «ابنُ الثورة، الذي وُلد وترعرع في بيئة شيوعية»


الانقلاب على الأثرياء
أدّت «سياسة الإصلاح والباب المفتوح» التي بدأها الرئيس، دنغ شياو بينغ، في عام 1978، والتي سمحت لرأس المال المالي الغربي والمعرفة التكنولوجية بالتدفّق إلى البلاد، بالإضافة إلى تمسّك الرؤساء الذين خلَفوه بهذه السياسة، إلى تحقيق الصين نهضتها الشهيرة، لتصبح اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وسط توقُّعات بأن تتخطّاها في العقد القادم. بيد أنّه نتيجة لهذا التقدم، باتت الصين «من أسوأ الدول من ناحية إعادة توزيع الدخل، بالرغم من أنّها دولة اشتراكية. وبات الإنفاق العام يتركّز على المدن والمدارس النخبوية... إلخ»، بحسب أستاذ الاقتصاد في جامعة بكين والمؤيّد لحملة «الازدهار المشترك» التي بدأها شي. اقتضت حملة الأخير هذه، «الانقلاب» على الأثرياء وشركاتهم، وإجبارهم على مشاركة ثرواتهم مع سائر المجتمع، بعدما كان شياو بينغ قد أكّد بنفسه أنه «خلال مسار الصين نحو التقدّم، سيُسمح للكثير من الأشخاص بأن يصبحوا أثرياء أوّلاً». تشير صحيفة «ذي إنديان إكسبرس» الهندية إلى أنّه حتى عام 2021، كان 1% من الأشخاص يملكون 32% من ثروات البلاد، وعام 2019، تخطّى عدد الأثرياء الصينيين أولئك الأميركيين للمرّة الأولى. غير أن الإجراءات والقيود التي فرضتها الحكومة الصينية في السنوات الماضية على كبرى الشركات في مختلف القطاعات، على غرار منصّة التجارة الإلكترونية «Pinduoduo» وشركة الألعاب العملاقة «Tencent»، أجبرتْها ورؤساءها على الالتزام بخطّ شي، والتبرّع بعشرات مليارات الدولارات للجمعيات الخيرية، وإطلاق خطط لتمويل مشاريع التعليم والتكنولوجيا الزراعية والتخفيف من حدّة الفقر، وفق مجلة «فوربس» الأميركية.

القلعة الصينية
للخروج قدْر المستطاع من المدار الأميركي، شدّد شي، في أيلول 2022، على الضرورة الملحّة لإحداث طفرات في الخبرات المحلّية والتفوّق على الغرب، «حفاظاً على أمن البلاد»، وفق ما نقلت عنه صحيفة «فاينانشال تايمز». تُشبّه هذه الأخيرة الصين التي يطمح إليها شي، بـ«قلعة» يتمّ تشييدها عبر تحقيق الاستقلالية في مجالات رئيسة، منها: الخبرات المحلّية ولا سيّما في مجال التكنولوجيات الرئيسة، مع تأكيد أهمّية «تعزيز القيادة المركزية والموحّدة لـ(اللجنة المركزية)، وإنشاء نظام قيادة موثوق به لصُنع القرار في مجال التكنولوجيا»، على حدّ تعبير شي، فضلاً عن زيادة مصادر الطاقة المتجدّدة وتقليل الاعتماد على النفط والوقود اللذَين تستوردهما البلاد بحراً. أمّا الغذاء، ففي حين لم يلتفت الرؤساء الصينيون المتعاقبون قبل شي كما يجب إلى مسألة الأمن الغذائي، شدّد الأخير على ضرورة زيادة المحاصيل أكثر من أيّ وقت مضى، وضمان سلامة الأراضي الصالحة للزراعة بشكل أفضل، واستخدام المياه الصديقة للبيئة، وإنشاء مشاريع ضخمة لتوفير المياه. ومن الناحية المالية، يتجسّد الهدف الصيني الأهمّ حالياً في تقليل الاعتماد على الدولار، تحسُّباً لأيّ استخدام محتمَل له كسلاحٍ لتقويض بكين لاحقاً، كما حصل مع موسكو عندما تمّ استثناؤها من نظام «سويفت» المالي العالمي.
أخيراً، وفي خضمّ الحرب الروسية - الأوكرانية، ووصول التوتّرات حول تايوان إلى أعلى مستوياتها تاريخياً، ونظراً إلى تصميم الصين على إعادة توحيد الجزيرة خلال العقد القادم، ولو بالقوة، يرى مراقبون أن بكين تتابع حالياً استجابة الغرب للعملية العسكرية الروسية وطبيعة العقوبات الشاملة التي فرضها، وتزداد يقيناً بضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي في شتّى المجالات، وسط تأكيد واشنطن، لا سيما على لسان وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، أن استراتيجية الولايات المتّحدة تجاه الصين، خلال السنوات العشر القادمة، ستكون حاسمةً في تحديد شكل النظام العالمي المستقبلي.