تتزايد المؤشرات إلى اتّفاق وشيك بين الإدارة الأميركية والكونغرس ممثَّلاً بمجلس النواب ذي الغالبية الجمهورية، حول رفْع محتمل لسقف الدَين الأميركي، والبالغ 31.4 تريليون دولار، لتجنُّب تخلُّف الولايات المتحدة عن سداد ديونها، وما يمكن أن يستتبع هكذا احتمال من تداعيات على الأسواق العالمية، التي تابعت باهتمام، على مدى الأسابيع الماضية، مفاوضات حلّ الأزمة. وفي ظلّ التحدّيات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، تقترب المهلة من نهايتها، مطلع الشهر المقبل، حين تَفرغ اعتباراً منه خزينة الحكومة الأميركية من الأموال لدفع مستحقّاتها، وفق تقديرات الإدارة. على أن هذه الفوضى والمشاحنات الحزبية التي أرّقت الأسواق العالمية، لا تعدو كونها جزءاً من المناكفات السياسية التي تسبق دخول البلاد في دوامة الرئاسيات المرتقبة العام المقبل.وفي حين أن السيناريو التالي يبقى مستبعداً في الوقت الراهن، إلّا أن بلوغ الدَين العام الأميركي مستوًى قياسيّاً، يضع الولايات المتحدة في مواجهة حالة تخلّف عن السداد غير مسبوقة تنطوي على تداعيات قد تكون كارثية على الاقتصادَين الأميركي والعالمي؛ أو انخفاض حادّ في الإنفاق الحكومي، وهما احتمالان يهدّدان الاقتصاد العالمي، على اعتبار أن الأول يقوّض الثقة في أهمّ نظام مالي في العالم، فيما يؤدي الثاني إلى دخول الاقتصاد في دوّامة ركود عميق لا يُتوقّع أن يَخرج أحد منها سالماً، وفق تقدير مجلّة «إيكونومست» البريطانية. واستباقاً، حذّرت وزارة الخزانة الأميركية من عواقب وخيمة إذا نفد النقد من خزينة الدولة لسداد مستحقّاتها، ودفع رواتب الموظفين الفيدراليين، والنفقات الحكومية الأخرى، ممّا يؤدّي تالياً إلى ارتفاع محتمل في أسعار الفائدة مع آثار غير مباشرة على الشركات والرهون العقارية والأسواق العالمية. وفي الاتجاه نفسه أيضاً، شدّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، على أن الكونغرس يحتاج إلى رفْع حدّ الدَين من دون شروط لسداد النفقات التي تمّت الموافقة عليها مسبقاً لدى مناقشة الموازنة، فيما يريد الجمهوريون، بزعامة رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي، أن يوافق الرئيس على تخفيضات كبيرة في الموازنة لضمان موافقتهم. وتتأمّل السوق العالمية، في هذا الوقت، في أن تجد السلطات الأميركية مَخرجاً، علماً أن اللجوء إلى رفع سقف الدَين العام مرّة بعد أخرى ليس الخيار الأمثل، لأنه يجعل أساس النظام المالي الأميركي أقلّ استقراراً في كل مرّة. فقد تمّ رفْع سقف الدين 78 مرّة منذ عام 1960 - 49 مرّة في ظلّ رئيس جمهوري، و29 مرّة في عهد رئيس ديموقراطي -، فيما تجاوز حجم الدَين في أميركا، حجمَ الناتج المحلّي للبلاد، للمرّة الأولى، في عام 2013، ليبلغ 16.7 تريليون دولار، وصولاً إلى 31.4 تريليون دولار، مرتفعاً بنسبة 88% خلال السنوات العشر الأخيرة. وفي حال تعطُّل الحلّ، سيتعيّن على وزارة الخزانة اتخاذ «تدابير استثنائية» لتجنُّب كارثة مالية، في حال وصول الحكومة الأميركية إلى سقف الدين العام، وهو ما أكده أندرو هانتر، نائب كبير الاقتصاديين الأميركيين في «كابيتال إيكونوميكس»، عندما قال: «(إنّنا) في وضع كارثي محتمل من شأنه أن يؤثّر على السوق المالية»، ذلك أن الكثير من الاقتصادات حول العالم يرتبط بالدولار الأميركي من خلال التجارة والاستثمار. وفي هذا الإطار، قال رئيس «البنك الدولي»، ديفيد مالباس، إن احتمال تخلّف الولايات المتحدة عن سداد ديونها «يزيد من المشكلات التي يواجهها الاقتصاد العالمي المتباطئ»، في وقت تتراجع الاستثمارات اللازمة لزيادة الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة ومستويات الديون.
أزمة سقف الدَين الأميركي قضيّة مالية حسّاسة، تتمحور باختصار حول أن معدّلات إنفاق الحكومة الأميركية أعلى بكثير من إيراداتها. ولملء هذه الفجوة بين النفقات والإيرادات، تُصدر الحكومة سندات تُعدّ واحدة من أهمّ أدواتها للاقتراض، وهي مع هذا، وبخلاف معظم الدول، تضع سقفاً للمبالغ التي يمكنها اقتراضها، ما يمنعها تالياً من الاقتراض بلا حدود. وهكذا، عندما يصل الدَين العام الأميركي إلى الحدّ الأقصى المسموح به، تتوقّف وزارة الخزانة عن إصدار المزيد من السندات، وتجد نفسها أمام مأزق مالي يمنعها من تلبية التزاماتها، فيتدخّل الكونغرس، الجهة المخوّلة رفع سقف الدين، والذي لا يمكن الحكومة تخطّيه. وعلى مدى العقود الماضية، تجنّب الكونغرس خرق حدود الدين العام، لكن الجمهوريين، وهم الغالبية في مجلس النواب الحالي، قالوا إنهم «لن يدعموا زيادة سقف الديون هذه المرّة، ما لم يتمّ تخفيض الإنفاق الحكومي أو الحصول على تنازلات أخرى»، علماً أن رفع سقف الديون لا يعدّ مشكلة كبيرة عندما يكون هناك جمهوري في البيت الأبيض، إذ رفع الجمهوريون في الكونغرس سقف الدين ثلاث مرّات في عهد الرئيس دونالد ترامب. لكن مكارثي تعهّد «بعدم الانصياع» لطلب بايدن رفع السقف، وذلك خلال مفاوضات انتخابه رئيساً لمجلس النواب في كانون الثاني الماضي، وهو ما يدلّل على البعد السياسي للأزمة.
يقول بايدن إن التخلّف عن سداد الالتزامات المالية للحكومة ليس بديلاً، في حين يؤكد مكارثي أنه لن يتنازل عن تخفيض كبير في الإنفاق العام بمقدار يقترب من 1.5 تريليون دولار في موازنة 2024. وثمّة مَن يرى أنه يمكن التوصّل إلى حلّ وسط يمكن من خلاله تبنّي تخفيض محدود في الإنفاق الحكومي بمعدّل نصف ما يطالب به الجمهوريون، أي عند حدود 700 مليار دولار في موازنة العام المالي المقبل.