من المنصوح عادةً، لِمن يبغي قضاء ليلته خارج منزله، تجنّب إخبار القاصي والدّاني بذلك، وتوخّي الإبقاء على شيءٍ من الأضواء الخافتة، لإيهام مَن تُسوّل له نفسه رصْد المنزل ومحاولة السطو عليه، بعدم خلوّه من قاطنيه. لكن فات السيد فانسان جانبران، السياسي الشاب المنتمي إلى حزب «الجمهوريين» اليميني، ورئيس بلدية L'Haÿ-les-Roses - اليسارية تاريخيّاً، والواقعة جنوب العاصمة الفرنسية باريس -، مراعاة هذه الجزئية.فمنذ أن اندلعت الاحتجاجات، الأسبوع الماضي، عقب قضاء الشاب الفرنسي من أصولٍ جزائريّة، نائل مرزوق، على يد أحد رجال الشرطة الفرنسية صباح الثلاثاء الفائت، وما فتئ السيد جانبران يتنقّل من هواء شاشةٍ محلية إلى أُخرى في رسائل مباشرةٍ من مكتبه في مبنى البلدية، مفادها أنه مرابطٌ في مكتبه لمراقبة التطوّرات المقلقة للأوضاع في البلاد، وأنه ارتأى ضرورة تطويق مبنى البلدية بسواتر من الشبك المعدني أمام «تهديداتٍ» لم يجرِ عرضُ شيءٍ موثّقٍ منها، في بلدةٍ تُعدُّ إحدى بلدات جنوب باريس الأكثر هدوءاً وتجانساً سكّانياً. تكرَّر ظهور رئيس البلدية على الشاشات على مدى ثلاثة أيام، إلى أن حلّت به الملمّة فجر الأحد، وأقدمت سيّارة صدمٍ محمّلة بموادّ حارقة، سُرقت في الليلة ذاتها، على اختراق سور منزله الذي يبعد عن مبنى البلدية مسافةً لا تتعدّى كيلومتراً واحداً، وأضرمت النّار في باحة المنزل وسيارة العائلة، متسبّبةً باستيقاظ زوجته التي تشغل منصباً استشارياً في البلدية ذاتها، وطفله وطفلته ذوي السنوات السبع والخمس، مذعورين، ومحاولةِ الزوجة الفرار بولديها عبر الحديقة الخلفية للمنزل، ما تسبّب بكسرٍ في ساقها وجروحٍ سطحيةٍ للطفلة، فضلاً عن صدمةٍ نفسيّةٍ جرّاء حالة الفزع التي عاشها الطّفلان.
وعلى رغم معرفة مكان الشخص «المستهدَف» من قِبل الجُناة، وعدم قصدهم لهذا المكان، لكنّها «محاولة اغتيالٍ موصوفة»، بحسب رئيس البلدية وربّ الأُسرة وابن البلدة التي عاشت ليلةً ليلاء بمعايير دولٍ لم تتطوّر لدى شعوبها جيناتُ تحمّل الرعب، بل وترقّبه، تحت وطأة حروبٍ أو كوارث، فانهالت رسائل التضامن منذ الساعات الأولى لصباح الحادثة، وسارع سكان البلدة وتُجّارها للتعبير عن حزنهم واستنكارهم لِما ألمّ برئيس بلديتهم.
حصد فانسان جانبران، خلال يومين، تضامناً وتعاطفاً لم يقتصرا على الشعبي منه، أو السياسي من الطرف الذي يشاركه المشرب، بل تعدّاه ليشمل غالبيّة الأطياف السياسية، إلا أنّ رفاقه في حزب «الجمهوريين»، من رؤساء بلديّاتٍ وغير ذلك، لم يدّخروا فرصةً للتربّص بِجان لوك ميلانشون، المرشّح الرئاسي السابق ورئيس حركة «فرنسا غير الخاضعة» اليسارية، لرصد تأخّره (أو عدم تأخّره) في التصريح عن موقفه حيال سلسلة أعمال الشغب والعنف والتخريب التي تشهدها البلاد، فضلاً عن جدالاتٍ جوفاء ملأت الشاشات، متفاوتةٍ بعنصريتها وفوقيتها، غايتُها صبّ جام الغضب ومعه أصابع الاتّهام على المهاجرين والطبقات المُعدمة، مع رشّةٍ من الحنين لفرنسا التي «ما عادت تشبه» اليوتوبيا التي يحملونها عنها في خيالاتهم، بنتيجة «الدخلاء» الذين «لا يشبهونهم» بدورهم!
جدالات جوفاء ملأت الشاشات، متفاوتة بعنصريتها وفوقيتها، غايتُها صبّ جام الغضب ومعه أصابع الاتّهام على المهاجرين والطبقات المُعدمة


بالعودة إلى تداعيات حادثة مقتل الشاب نائل، وفي إطار نوعٍ من التّنافس الكيديّ حيال دعواتٍ شعبيّةٍ لإجراء حملة جمع مساعداتٍ ماليّةٍ لصالح أسرة الضحيّة، وصلت إلى نصف مليون يورو، حشد المتحدث السابق باسم زعيم اليمين المتطرّف، إرِك زيمور، بدوره، حملةً مماثلة لجمع المال لعائلة الشرطي المتورّط في الحادثة، والذي جرى توقيفه بنتيجتها. لامس المبلغ ليل الاثنين المليون يورو وسط دهشةٍ شعبيّةٍ، خاصةً لدى الفئة العمريّة الفتيّة التي ترى في الأرقام ذات المراتب الستّ وما فوق مفتاح أحلامها التي لا تعرف الحدود. وانتشرت على المقلب الآخر دعواتٌ عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتبليغ عن المبادرة لإسقاطها. أما رئيسة الوزراء الفرنسية، فرأت عند سؤالها، مساء الإثنين، عن قانونيّة مبادرةٍ كهذه، أنها ليست بموضعٍ يخوّلها الحُكم على قانونية الأمر، لكنّها ترى أنّه بالنظر إلى مُطلِق المبادرة وتموضعه السياسي، فإن مبادرةً كهذه لن «تسهم في التهدئة».
تتّجه حدّة موجةِ التخريب نحو الخبو ومدى انتشارها نحو التضاؤل منذ نحو 48 ساعة، دون أن يؤثّر ذلك على مدى استنفار وجهوزية عديد الشرطة والدرك وعتادهم، إذ تم السماح لطائراتٍ من دون طيار تابعةٍ للشرطة بالتحليق فوق عدة بلديات في ضواحي باريس، وتمديد حظر التجوال الليلي، خاصّة الحظر الذي يستهدف الفئة العمرية الفتيّة، في العديد من البلدات، مع استمرار تقييد حركة الحافلات والترام بعد الساعة 9 مساءً، وسط دعواتٍ للأهالي لتحمّل مسؤولياتهم المدنية ومنع أولادهم من مغادرة المنازل بعد وقت متأخر من المساء، وتعويض أضرار التّجار وخسائرهم في حال ثبت ضلوع الأبناء بعمليات تخريبٍ أو سرقةٍ للبضائع، ومحاولاتٍ بائسة لحجب بعض منصات التواصل الاجتماعي عبر مخدّمات الإنترنت بعد ساعاتٍ معينةٍ في المساء «درءاً لانتشار دعوات الشغب وخطابات الكراهية والتحريض»، وربما انتقال عدوى العنف إلى مناطق «أكثر حكمة».
للأديب الفرنسي فيكتور هوغو مقولةٌ في رائعته «البؤساء»: «ما من أعشابٍ ضارة أو بشرٍ سيئين، بل هناك مربّون سيّئون». وهذا كلامٌ دقيقٌ تصحّ معه على أرض الواقع كثيرٌ من الإسقاطات، زراعيةً كانت أو تربوية - وهما متداخلان، وقد نكون متفقين على أنّ في كلّ إنسانٍ، طفلاً كان أو يافعاً، أو حتى بالغاً وكهلاً، بذرة خيرٍ وبذرة شر، وأنّ دَور العائلة والبيئة الحاضنة يستمدّ محوريتَه من قدرته على تنمية البذرة الطيبة على حساب البذرة السيئة، لتنمو نبتةً مثمرةً في العقود اللاحقة، وتعودَ بالخير على البيئة التي حضنتها. لكن في حالتنا هنا، فإن استيراد بذورٍ من مصادر خارجية، يستلزم إيلاءها جهداً مضاعفاً، للنظر في خصوصيتها وشروط نموها المثلى، ومحاولة محاكاة هذه الشروط، أو تأمين أفضل منها، ليتأتّى التلذّذ لاحقاً بأينع الثمار وأغناها خيرات.
لن تكون أحداث الأسبوع الفائت في فرنسا سوى فرصة ضائعة جديدة ما لم يتم تحليلُ الأسباب والظروف واستخلاص الدروس والعِبَر وترجمة ذلك تغييراً في النّهج والسياسات لدى المعنيين بكلّ ما حدث ويحدث كل يوم، من أعلى سُلطةٍ في الدولة إلى أصغر خليةٍ من خلايا المجتمع، في وعيهم ولا وعيهم، وإلا، فَجُلّ ما يمكن جنيُه ممّا جرى نقاطٌ زائدةٌ لهذا الطرف السياسيّ، وأخرى مسحوبةٌ من رصيد ذاك، لصالح مزيدٍ من الاستقطاب سياسياً واجتماعياً، ومزيدٍ من الخسائر الاقتصادية وتردّي الأوضاع المعيشية التي ما عادت ولن تعود تبعاتُها المدمّرة حكراً على بذورٍ ونباتاتٍ أُقحمت في الحقل.