تذهب أكثر التقديرات تشاؤماً إلى عدم الاعتقاد بنهايةٍ للحرب؛ والحربُ كمفردة باتت كافية للدلالة على ما يجري على الساحة الأوكرانية منذ عامٍ ونصف عام. لم يَعُد خافياً على كثيرين، منذ عامٍ على الأقلّ، أن الحرب في هذا البلد لا تسير تماماً ودائماً وفق مصلحة طرفَيها الممثَّلَيْن بروسيا من جهة، وأوكرانيا والعالم الغربي من جهة ثانية، وإنْ كان هذا الأخير لا يفتأ يَخلق سُبُلاً لديمومتها (الضحّ الهائل للسلاح المتطوّر مثالاً)، حاله حال روسيا التي لا يبدو أنها ستقبل بأقلّ من انتصار يركّع الأوكرانيين، ويشطر البلاد نصفَين، من دون أيّ إشارةٍ أو حتى رغبة يبديانها، إلى الآن، في إطلاق مسار تفاوضي لاستكشاف آفاق الحلول الممكنة، في ظروف حربٍ «فريدة من نوعها»، و«لا يوجد تشبيه تاريخي مثالي لها»، على حدّ وصف عالم السياسة، سامويل تشاراب. وفيما كان الردّ الغربي (الأميركي تحديداً) واضحاً منذ بداية الحرب - أي مساعدة أوكرانيا في مواجهة «العدوان الروسي» ومعاقبة موسكو على تجاوزاتها -، ظلّ الهدف - أي «نهاية اللعبة» - غامضاً، كما يصفه تشاراب في مقالته المعنونة «حربٌ بلا منتصر»، في «فورين أفيرز»، والتي نالت نصيبها من الضجّة والردود الكثيرة التي انهالت رفضاً لِما طَرحه عالم السياسة المرموق.شكّل هذا الغموض سِمة السياسة الأميركية حيال الحرب الروسية - الأوكرانية؛ وللدلالة على ذلك، يذكّر تشاراب بتصريحٍ لمستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، قال فيه (حزيران 2022): «لقد امتنعنا في الواقع عن وضع إطار لِما نَعتبره نهاية اللعبة... وركّزنا (بدلاً من ذلك) على ما يمكننا فعله اليوم وغداً والأسبوع المقبل لتقوية أيدي الأوكرانيين إلى أقصى حدٍّ ممكن: أوّلاً في ساحة المعركة، ثمّ أخيراً على طاولة المفاوضات». لكن النهج الذي بدا «منطقيّاً» في الأشهر الأولى للصراع، حين كان مسار الحرب بعيداً أصلاً من الوضوح في تلك المرحلة، لا ينطبق على عالم اليوم. لهذا، يرى تشاراب أن «الوقت قد حان لأن تضع الولايات المتحدة رؤية حول كيفيّة انتهاء الحرب، بعدما بيّنت الأشهر الـ15 الماضية من القتال، أن أيّاً من الطرفَين لا يمتلك القدرة - حتى بمساعدة خارجية - على تحقيق نصر عسكري حاسم على الآخر». وبصرف النظر عن المساحة التي يمكن القوات الأوكرانية استعادتها، ستحتفظ موسكو بالقدرة على تشكيل تهديد دائم لكييف، فيما سيكون لهذه الأخيرة أيضاً القدرة على تعريض أيّ منطقة تسيطر عليها القوات الروسية للخطر. وتلك عوامل، من شأنها أن تطيل أمد الصراع المدمّر، وأن لا تُنتِج حلولاً نهائية.
وفي ظلّ التقلّبات الكثيرة التي تستحكم بساحة المعركة، يجادل بعض المحلّلين بأن الوقت الحالي ليس مناسباً لبدء مفاوضات تسكت المدافع، إذ يفضّل هؤلاء انتظار مآل الهجمة الأوكرانية المضادة، وما يمكن كييف أن تحقّقه من مكاسب من شأنها تعزيز موقعها التفاوضي، على رغم أن الهجوم المضاد - وفي حال نجاحه في استعادة أراضٍ سيطرت عليها القوات الروسية -، لن يؤدّي إلى نتيجة عسكرية حاسمة لمصلحة كييف، مثلما لن يضمن اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل، النصر لموسكو، بحسب ما يرى تشاراب، إذ «لا تنتهي الحروب بين الدول عموماً عندما يتمّ دفْع قوات أحد الطرفَين (الأطراف) إلى ما وراء نقطة معيّنة على الخريطة. وبعبارة أخرى، غزو الأراضي - أو الاستيلاء عليها - ليس في حدّ ذاته شكلاً من أشكال إنهاء الحرب». وتفيد التوقّعات المتفائلة للأشهر المقبلة، بأن الأوكرانيين سيحقّقون بعض المكاسب في الجنوب، وربّما يستعيدون أجزاء من منطقتَي زابوروجيا وخيرسون، أو يتمكّنون من صدّ الهجوم الروسي في الشرق. ومع ذلك، تأمل العواصم الغربية في أن تُجبِر المكاسب التي ستحقّقها كييف في ساحة المعركة، بوتين، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولكن كما أن فقدان السيطرة على الأرض لا يعني خسارة الحرب، فإنه لا ينتج بالضرورة تنازلات سياسية، إذ يمكن الرئيس الروسي أن يعلن تعبئة جديدة، أو أن يكثّف حملة القصف على المدن الأوكرانية، مقتنعاً بأن الوقت سيعمل لمصلحته وضدّ أوكرانيا. وتكمن الجوانب الرئيسة لهذا الصراع، في بُعدَين: التهديد المستمرّ الذي سيشكّله كلا الجانبَين، أحدهما للآخر، والنزاع غير المحسوم حول المناطق الأوكرانية التي ضمّتها روسيا.
النهاية الأكثر منطقيّة للحرب، كما يراها تشاراب، تكون في اتفاق هدنة شبيه بالهدنة الكورية لعام 1953


بالنسبة إلى أوكرانيا، يبدو الهدف واضحاً للغاية: السيطرة على جميع أراضيها المعترف بها دولياً، والتي تشمل شبه جزيرة القرم وأجزاء من دونباس التي ضمّتها روسيا منذ عام 2014، علماً أن موقف هذه الأخيرة ليس قاطعاً تماماً، ذلك أنها حافظت على بعض الغموض حيال منطقتَين من الأقاليم الأوكرانية الخمسة التي ضمّتها: زابوروجيا، وخيرسون. وبعيداً من هذا الغموض، فلا أوكرانيا ولا روسيا ستتمكّنان من فرْض سيطرتهما على ما تَعتبرانه أراضيهما، وفق القراءة هذه. ولذا، يتعيّن عليهما، كما يقترح الباحث، «تسوية خطّ سيطرة بحكم الأمر الواقع لا يعترف به أيّ منهما كحدود دولية». وفي دراسة حديثة لمؤسّسة «راند»، شارك في كتابتها تشاراب والعالمة السياسية، ميراندا بريبي، يخلص الباحثان إلى أن تلك العوامل الثابتة قد تؤدّي إلى حرب ساخنة طويلة الأمد بين البلدَين، ستشكّل بدورها معضلة للولايات المتحدة وحلفائها، لأن «الصراع الذي يطول أمده من شأنه أن يُبقي خطر التصعيد المحتمل - إمّا للاستخدام النووي الروسي أو لحرب بين روسيا والناتو - عند مستواه المرتفع الحالي، فيما ستركن أوكرانيا إلى الدعم الاقتصادي والعسكري الغربي، وهو ما سيرخي تحدّيات على موازنة الدول الغربية. كما ستستمرّ التداعيات الاقتصادية العالمية للحرب، بما في ذلك تقلّب أسعار الحبوب والطاقة. ولن تكون الولايات المتحدة قادرة على تركيز مواردها على أولويات أخرى، وسيتعمّق اعتماد روسيا على الصين. وعلى رغم أن الحرب الطويلة ستزيد من احتمال إضعاف روسيا، إلّا أن هذه الفائدة لا تفوق تلك التكاليف».
وبما أن المحادثات ضرورية، ولكن التسوية غير واردة، فإن النهاية الأكثر منطقيّة للحرب، كما يراها تشاراب، تكون في اتفاق هدنة (اتفاق دائم لوقف إطلاق النار لا يجسر الانقسامات السياسية، ومن شأنه أن ينهي الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، ولكن ليس صراعهما الأوسع)، شبيه بالهدنة الكورية لعام 1953، والتي تعاملت حصراً مع آليات الحفاظ على وقْف إطلاق النار، وتركت جميع القضايا السياسية خارج طاولة التفاوض.
في المقابل، يقول الباحثان ألينا بولياكوفا ودانييل فرايد، في ردّهما على تشاراب، إنه «في مرحلة ما، ستكون هناك حاجة إلى التفاوض مع روسيا لإنهاء الحرب. لكن أوكرانيا يجب أن تبدأ التفاوض فقط عندما تكون في أقوى موقف ممكن. لا ينبغي الاستعجال في المحادثات عندما لا تبدي روسيا أيّ اهتمام بأيّ شروط تسوية بخلاف استسلام أوكرانيا. فبدء المفاوضات الآن، يعني القبول بشروط بوتين المتطرّفة». لهذا، يرى الباحثان أنه «عندما تجري المفاوضات، يجب أن تكون مصحوبة بترتيبات أمنية لأوكرانيا (ضمّها إلى عضوية الناتو) تمنع روسيا من إعادة تجميع صفوفها وشنّ هجوم آخر». وفي الاتجاه نفسه، تعتبر أنجيلا ستنت أنه «يمكن وقْف روسيا في ساحة المعركة»؛ فـ«إذا تمكّنت أوكرانيا من تأمين أسلحة غربية أكثر وأفضل، فقد تحقّق المزيد من المكاسب»، ليردّ تشاراب مجدّداً: «من الواضح الآن أن أيّاً من الطرفَين غير قادر على تحقيق نصر عسكري حاسم، سواء في شكل تغيير النظام أو نزع سلاح العدو». لذلك، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها البدء في محاولة توجيه الصراع نحو نهايته، مقترحاً لهذه الغاية عدّة إجراءات، من مِثل الالتزامات الأمنية لأوكرانيا، وآليات دعم وقف إطلاق النار، وتعيين مبعوث خاص من جانب الولايات المتحدة، وفتح مناقشات مع الحلفاء وأوكرانيا حول نهاية الحرب، وإنشاء قنوات نشطة مع موسكو. ومن الجدير بالملاحظة، كما يضيف تشاراب، أن نقداً واحداً فقط من الانتقادات التي وردته، يقدّم نهاية بديلة متماسكة لتلك التي يجادل في شأنها: يطالب دميترو ناتالوخا، الغرب بتبنّي سياسة صريحة لتغيير النظام في روسيا، واتّخاذ تدابير فعّالة لإطاحة بوتين، وتنصيب شخصيّة ليبرالية معارضة في الكرملين؛ وذلك، يقول الباحث، «حلم أكثر من كونه استراتيجية - وربّما كابوس»، فيما لا تقدّم ستنت، من جهتها، أيّ اقتراحات عن الكيفية التي ترى بها انتهاء الحرب. هي تدعو إلى «وقف العدوان الروسي في ساحة المعركة، وليس على طاولة المفاوضات»، ما يشير، على الأرجح، إلى تفضيلها تدمير الجيش الروسي. ويؤكد بولياكوفا وفرايد، من جهتهما، أن موقع خطّ السيطرة هو المحدّد الرئيس لمستقبل أوكرانيا، من دون موازنته بعوامل أخرى، مثل طول الصراع، أو استقرار وقف إطلاق النار النهائي، أو الازدهار والأمن. لهذا، «يبدو أن منتقدي (تشاراب) يرَون الدبلوماسية كمرادف للاستسلام، وليس كأداة مهمّة في فنّ الحكم». فضلاً عن ذلك، لا يتطلّب بدء التفاوض، كما يشير كلّ من بولياكوفا وفرايد وستنت، «القبول بشروط بوتين المتطرّفة»، لأن ذلك يعني الاستسلام. وفي غياب المفاوضات، لن يكون لدى بوتين أيّ حافز لتقديم تنازلات استباقية أو التعبير علناً عن أيّ شيء آخر غير المطالب المتطرّفة. «من المهمّ دائماً أن تأخذ ما يقوله على محمل الجدّ»، كما تنصح ستنت، ولكن من المهمّ أيضاً فهم السياق الذي يتحدّث فيه، وفق تشاراب. ففي الوقت الذي لا تُظهر فيه أوكرانيا ولا شركاؤها الغربيون استعداداً للتحدّث، سيكون من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات حول استعداد بوتين للمساومة بناءً على تصريحاته العامة، كما يقول تشاراب، ناصحاً الولايات المتحدة بأن تدخل في أيّ مشاورات أو مفاوضات من دون أوهام حول مصداقية روسيا وقادتها. ففي السياسة الدولية، لا يمكن المرء أن يختار محاوره، ولا يوجد طريق معقول لإنهاء الحرب لا يستلزم إشراك موسكو.