91 تهمة جنائية هي مجموع التهم الموجّهة إلى الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، والمضمَّنة في أربع لوائح اتّهام جنائية، في أربع ولايات أميركية (نيويورك، فلوريدا، واشنطن وجورجيا)، علماً أن أحدثها لائحتان تتناولان محاولته «سرقة» انتخابات عام 2020، من خلال «التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة»، و«التآمر لعرقلة إجراء رسمي»، في الشهرَين اللذَين سبقا أحداث السادس من كانون الثاني 2021. ومع افتراض كثيرين أن الولايات المتحدة «محصّنة» من مشكلة يجري ربطْها عادةً بـ«دول العالم الثالث»، إيماناً منهم بـ«الاستثناء الأميركي»، ثمّة اعتقاد - مدعّم بقرائن اللوائح التي أميط عنها اللثام على مدى الأشهر الأربعة الأخيرة - يسود أوساط النخب الأميركية، بأن ترامب جهد فعلاً للبقاء في منصبه من طريق «التلاعب بالنظام الديموقراطي»، بعدما أسهمت ولايته الأولى في تجلية هشاشة «الاستثناء»، وتعميق حالة الاستقطاب التي ظهرت بأوضح صورها إبّان عهده. لكنّ الاتهامات جميعها، وإنْ كانت تهدف من جملة ما تهدف إليه، إلى التأثير على مسيرته الانتخابية وصولاً ربّما إلى انسحابه من السباق، لم تنعكس سلباً على رصيده، بل ازداد تمسّك قاعدته الناخبة به، ظناً منها أن سَيْل اللوائح الموجّهة ضدّه، مصمّم لحرمانه من كسْب معركة الترشيح، كما أنها لم تأتِ إلى الآن بالمنفعة على خصومه في المعسكر الديموقراطي. وممّا يدلّل على «فشل» المسار القضائي في إضعاف الرئيس السابق، أو لجم اندفاعته، ليس تقدّمه الفائق على منافسيه الجهموريين فحسب، إنّما أيضاً التبرعات الهائلة التي باتت تصل إلى حملته منذ صدور أولى اللوائح، ليرتفع متوسّط ما يجمعه ترامب في يوم واحد، في الأسابيع الثلاثة التي تلت الكشف عن قضيّة ستورمي دانييلز، من 129 ألف دولار إلى 778 ألف دولار، ما يعني أن ترامب جمع ما يزيد قليلاً على 12 مليون دولار في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، فيما تمكّن من جمْع مبلغ مماثل، هو 13 مليوناً، في غضون سبعة أيام من صدور اللائحة الأولى، بحسب أرقام السجلّات الفدرالية. وربّما يكون ما سلف من بين الأسباب التي حدت بالرجل إلى الامتناع عن المشاركة في المناظرة الأولى للجمهوريين، بدعوى أن استطلاعات الرأي تؤكد تصدّره - وبفارق كبير - عن أقرب منافسيه، رون ديسانتيس، وذلك بعدما أظهر استطلاع جديد أجرته شبكة «سي بي إس» الإخبارية، أن 62% من الناخبين الأساسيين المحتملين للحزب الجمهوري يدعمون ترامب، في مقابل 16% لديسانتيس.
ويمكن النظر إلى «تأثير» هذه اللوائح، بطرق تكشف الكثير عن حالة الحزب الجمهوري، الذي خلصت صحيفة «نيويورك تايمز»، بعد مراجعة شاملة أجرتها، تضمّنت فحص استطلاعات الرأي الوطنية على مستوى الولايات وسجلّات تمويل الحملات الفدرالية، وإجراء مقابلات مع الناخبين الجمهوريين، إلى أن ترامب لا يزال يهيمن عليه، كاشفةً أيضاً أن الملايين من الناخبين الجمهوريين ينظرون إلى المشاكل القانونية للرئيس السابق، على أنها هجوم بالوكالة ضدّهم. ويَعرض ما تقدَّم واقعاً مقلوباً، حيث تعمل التهم الجنائية كأصول سياسية، على الأقلّ لغرض فوز المستهدَف بترشيح الحزب الجمهوري. ففي الاستطلاعات التي أعقبت صدور اللائحة الأولى في الربيع، حصل المرشّح المحتمل على 9 نقاط مئوية إضافية في متوسطات الاقتراع. ويمكن فهم هذا التقدُّم، أخذاً في الاعتبار تشبُّت مؤيّدي ترامب بمرشّحهم، أو كما يقول أحدهم: «لوائح الاتّهام تزيد من دعمي له... لقد قاموا بتسليح حكومتنا بأكملها ضدّ أشخاص مثلنا. في كل مرّة يتمّ فيها توجيه الاتهام إليه، يدفع ذلك عشرات الآلاف منّا إلى صناديق الاقتراع».
77% من الجمهوريين، عدّوا لوائح الاتهام الصادرة ضدّ ترامب بمثابة «هجوم على أشخاص مثلهم»، وفق استطلاع «سي بي إس» الذي أعقب صدور اللائحة الأخيرة (قضيّة قلب نتائج الانتخابات في جورجيا)، فيما شعر 86% منهم بأن اللوائح تهدف إلى منْع ترامب من استكمال حملته الانتخابية، ولا سيما إذا أُخذت في الاعتبار مسألة أن الديموقرطيين هم مَن يشرفون على التحقيقات. ويمكن أن يكون صعود ترامب في استطلاعات الرأي، مرتبطاً أيضاً بديناميّات متعدّدة تتجاوز الاتهامات الموجهة ضدّه، إلى تعثّر منافسه الأبرز، رون ديسانتيس. ويقول سبعة من كلّ 10 ناخبين جمهوريين أساسيين، إنه يتوجّب على الجمهوريين الوقوف خلف الرئيس السابق في مواجهة التحقيقات، وفقاً لأحدث استطلاع أجرته «نيويورك تايمز» بالتعاون مع كلية «سيينا»، فيما يَعتبر أكثر من 80% منهم، أن التهم الواردة في لائحة الاتهام الأخيرة «ذات دوافع سياسية» (استطلاع «إيه بي سي»/ «إيبسوس»). ومن هنا، لا تبدو مستغرَبة، ممازحة ترامب الصحافيين، صباح آخر استدعاء له، حول ما سيتطلّبه الأمر لضمان النصر، بقوله: «أحتاج إلى لائحة اتهام أخرى لضمان انتخابي!».

نموذج 1867: تعذُّر الاستفادة من السوابق
لم تكن انتخابات عام 2020، أول عمليّة انتقال رئاسي محفوفة بالمخاطر في الولايات المتحدة؛ ففي آذار من عام 1861، ومع انفصال سبع ولايات أميركية، أمرت إدارة الرئيس جيمس بوكانان المنتهية ولايته، الجيش الأميركي، بتسيير دوريات في العاصمة لمنع الانفصاليين من قتل الرئيس المنتخَب آنذاك، أبراهام لينكولن. ولكن، ربّما حدث التحوّل الأخطر بعد 15 عاماً، نتيجة للسلام الهشّ الذي أعقب الحرب الأهلية الأميركية؛ إذ عاشت الولايات المتحدة، في عام 1876، على وقْع أسوأ انتخابات في تاريخها. وخلال الفترة التي عُرفت بـ«عصر إعادة الإعمار»، وتلت الحرب الأهلية، واجه المرشّح الجمهوري روثرفورد هايز، نظيره الديموقراطي صامويل تيلدن، لخلافة الرئيس المنتهية ولايته يوليسيس غرانت، والظفر بمنصب الرئيس الـ19. وخلافاً لِما توقّعه كثيرون في حينه، جاءت نتائج التصويت لتثير جدلاً واسعاً عجز على إثره الجميع عن تحديد هوية الرئيس، فهدَّدت بعودة الحرب الأهلية قبل أن تتمّ لاحقاً تسوية المسألة من طريق اتفاق بين الجمهوريين والديموقراطيين أثار استياءً كبيراً، ولقّبه المؤرّخون بـ«الاتفاق السيّئ»، وحسم موازين الانتخابات لمصلحة هايز الذي وعد حلفاؤه، بأنه مقابل قبول جمهوري في البيت الأبيض، سيتمّ تعويض الديموقراطيين بانسحاب القوات الفدرالية من الجنوب، بموجب اتفاق عام 1877.
استهدفت الإجراءات القانونية منافساً رئاسيّاً يتمتّع أنصاره بتسليح جيّد، ولطالما نظروا إلى المعارك السياسية من منظور وجودي


وإذ لم تكن مسألة الانتقال من إدارة إلى أخرى دائماً بالسلاسة المطلوبة، غير أن لائحة الاتهام الثالثة التي قدّمتها وزارة العدل الأميركية، بداية الشهر الجاري، ضد ترامب، تُعدّ سابقة ليس لها مثيل في التاريخ الأميركي. فهي المرّة الأولى التي تتّهم فيها الحكومة الفدرالية رئيساً سابقاً بارتكابات جنائية حينما كان رئيساً. على أن الأهميّة الحقيقية للائحة الجديدة في جورجيا، تكمن في طبيعة الجرائم المزعومة المحمَّلة للرئيس السابق؛ إذ عمد ترامب وأقرب حلفائه، محاميه رودي جولياني، مستلهِمَين تجربة هايز على ما يبدو، في بداية كانون الأول 2020، بالتعاون مع حلفاء لهما في الكونغرس، من بينهم عضوا مجلس الشيوخ تيد كروز وتومي توبرفيل، إلى فتح جدل حول شرعيّة ناخبي بايدن في سبع ولايات: أريزونا، جورجيا، ميشيغان، نيفادا، نيو مكسيكو، بنسلفانيا، وويسكونسن. وفي التفاصيل، فقد تمّ تجنيد بعض الأفراد للتظاهر بأنهم ناخبون في تلك الولايات، على رغم أن الأخيرة كانت اختارت بالفعل ناخبيها الكبار للمجمع الانتخابي، بناءً على نتائج الانتخابات المعتمدة من قِبَل كلّ حاكم على حدة. كما تمّ توجيه ناخبي ترامب المزيّفين للتصويت لمصلحته في 14 كانون الأول، وهو اليوم الذي سيدلي فيه جميع الناخبين الكبار بأصواتهم لاختيار الرئيس. ونتيجة لذلك، ستكون هناك مجموعتان من الأصوات الانتخابية في الولايات السبع، في ما استهدف خلْق جلبة حتى لا يتمكّن الكونغرس من تحديد قوائم الناخبين الصالحة، وبالتالي يضطرّ إلى رفض التصديق على الانتخابات في السادس من كانون الثاني، على غرار ما حدث بعد انتخابات عام 1876، ومن ثمّ ينشئ لجنة انتخابية لإيجاد سبيل للخروج من الفوضى التي قد تؤدّي بطريقة أو بأخرى إلى بقاء ترامب في منصبه.

العنف السياسي، ونظرية «الاستبدال العظيم»
تخلق أول محاكمة جنائية لرئيس سابق ومرشّح رئاسي حالي «معضلة للديموقراطية الأميركية»، على حدّ تعبير لوكان واي في «فورين أفيرز». ففي بيئة شديدة الاستقطاب، تولّد محاكمة ترامب مخاطر حقيقية تتمثّل في «العنف السياسي واستخدام النظام القانوني الأميركي كسلاح». وفي الوقت نفسه، ثمّة خطر أكبر يتمثّل في أن «فشل المدّعين العامّين والقضاة وهيئات المحلّفين، في محاسبة ترامب، سيشجّع هجمات يمينية أكثر جرأة على الديموقراطية والنظام العام». على أن الخطر الأكثر وضوحاً، كما يقول الكاتب، هو ذلك الذي أثاره كثيرون من اليمين، أي أنه يمكن استخدام الاتهامات الجنائية كسلاح لقمع المعارضة السياسية. والأكيد، كما يضيف، أن النظام القانوني في الولايات المتحدة ليس محصّناً ضدّ التسييس؛ فالجهود غير العادية التي بذلها المدّعون العامّون الديموقراطيون في مانهاتن، أولاً سايروس فانس ثم ألفين براغ، لإيجاد قضيّة ما ضدّ زعيم الحزب المعارض، وحقيقة أن براغ يتّهم ترامب بجريمة نادراً ما يلاحقها المدّعون العامّون، تولّد مخاوف مشروعة من أن اتهام الرئيس السابق «كان مدفوعاً جزئيّاً على الأقلّ بالحزبية».
ويبقى أن هناك حدوداً واضحة لقدرة المسؤولين الأميركيين على استهداف المعارضين السياسيين. فحتى لو كانت لائحة براغ ذات دوافع سياسية، فلا يزال يتعيّن عليه إقناع غالبية الأعضاء الذين تمّ اختيارهم عشوائياً في هيئة محلّفين كبرى، بوجود أدلّة كافية لاتهام ترامب بارتكاب جريمة. ويستذكر الكاتب ملاحقات قضائية حدثت ضدّ كبار المسؤولين المنتخَبين الحاليين أو السابقين في العديد من الديموقراطيات، من دون أن يؤدّي ذلك إلى تقويض أنظمتها السياسية، ومن بين الأمثلة على ذلك: الأرجنتين (الرئيسان كارلوس منعم وكريستينا كيرشنر)، كرواتيا (رئيس الوزراء إيفو سانادر)، الإكوادور (الرئيس جميل معوض)، فرنسا (الرئيسان جاك شيراك ونيكولا ساركوزي)، إسرائيل (رئيس الوزراء إيهود أولمرت)، إيطاليا (رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني)، البرتغال (رئيس الوزراء خوسيه سوقراطيس)، رومانيا (رئيس الوزراء أدريان ناستاسي)، جنوب أفريقيا (الرئيس جاكوب زوما)، كوريا الجنوبية (الرئيسان روه تاي وو وبارك جيون هاي)، وتايوان (الرئيس تشن شوي بيان). لكن، في الوقت نفسه، يخلص إلى أن «الاستقطاب الشديد في السياسة الأميركية يجعل محاكمة زعيم سابق أكثر خطورة ممّا قد تكون عليه في أيّ بلد آخر»، إذ يرجّح أن يكون ردّ الفعل متطرّفاً من جانب أنصار القادة الذين يواجهون المحاكمة، خصوصاً أن الإجراءات القانونية هذه المرّة استهدفت منافساً رئاسيّاً يتمتّع أنصاره بتسليح جيّد، ولطالما نظروا إلى المعارك السياسية من منظور وجودي.
ويواجه الحزب الجمهوري، اليوم، تهديداً حقيقياً لناحية فرصه في الفوز، بسبب انخفاض عدد المسيحيين البيض في الريف، والذين يشكّلون القاعدة الناخبة للحزب، إذ انخفضت نسبة الإنجيليين البيض من 23% من السكان الأميركيين في عام 2006، إلى 14% في عام 2020. وفي هذا الوقت، شكّل التنوّع المتنامي سبباً في دفع نسبة كبيرة من الجمهوريين إلى التطرّف، كونهم يخشون من أن يفقد الأميركيون البيض مكانتهم في المجتمع لمصلحة غير البيض. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن أساس الحياة الأميركية «مهدَّد وجودياً» من خلال «الاستيراد المستمرّ لأجانب العالم الثالث الذين ليست لديهم تقاليد أو خبرة في الحرية»، ما «يدمّر الحضارة الغربية»، ويؤدّي إلى «انتصار دائم» لليسار العازم على سحق اليمين. وتماشياً مع هذا الرأي، يعتقد العديد من الجمهوريين - الذين تزيد احتمالية امتلاكهم سلاحاً بنحو الضعف عن الديموقراطيين - أن العنف قد يكون ضرورياً لوقف «الانحدار» في أسلوب الحياة الأميركي التقليدي. وكما لاحظت عالمة السياسة، راشيل كلاينفيلد، فإن الخطاب العنيف والأفكار العنصرية البيضاء، التي كانت في السابق من اختصاص الجماعات الهامشية، قد شقّت طريقها إلى التيار الرئيس في الحزب الجمهوري. وعلى سبيل المثال، استضافت قناة «فوكس» مناقشات واسعة حول نظرية «الاستبدال العظيم»، التي ترى أن التنوّع المتزايد في الولايات المتحدة هو نتاج مؤامرة لـ«استبدال» الأميركيين البيض المولودين في الولايات المتحدة، بالمهاجرين. وفي الواقع، حاول ترامب وأنصاره استخدام التهديد بالعنف لوقف الملاحقات القضائية. وهو حذر، في أواخر آذار، من أنه إذا تمّ توجيه الاتهامات إليه، فإن ذلك سيؤدّي إلى «موت ودمار محتملَين...... يمكن أن يكون كارثياً على بلادنا».