بدا القاسم المشترك في عناوين الصحف التركية، أمس، أن أذربيجان حقّقت انتصارها الثاني في ساعات معدودات، هي مدّة الحرب الثالثة التي بدأت في 19 أيلول وانتهت بعد يوم واحد تقريباً باتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنته روسيا بوساطة قواتها لحفظ السلام في قره باغ. ينصّ الاتفاق على انسحاب الوحدات الأرمينية العسكرية من الإقليم المتنازَع عليه إلى أرمينيا برعاية القوات الروسية، وعلى تخلّي المسلّحين الأرمن عن كامل أسلحتهم وحلّ أنفسهم توازياً مع بدء مفاوضات بين باكو وممثّلين عن أرمن قره باغ في مدينة يفلاخ (yevlax بالأذرية) إلى الشمال من الإقليم، وهذا ما يعني وفقاً للرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، أن «قره باغ بكاملها قد عادت إلى الوطن الأم»، وأن القسم الذي لم تدخله قوات بلاده في حرب عام 2020 سيصبح تابعاً بالكامل لسلطات باكو، علماً أن وزارة الدفاع الأذربيجانية أعلنت أنها سيطرت أثناء الجولة الأخيرة على تسعين موقعاً للمسلّحين. من هنا، لا تبدو مستغرَبةً عنونة صحيفة «يني شفق» التركية الموالية، صفحتها الأولى بعبارة: «قره باغ حرة بالكامل».وبمعزل عن الكمين الذي تعرّضت له قوات حفظ السلام الروسية أثناء إجلائها سكاناً أرمن من قره باغ، والذي سقط خلاله عدد من القتلى، بينهم قائد القوّة، إيفان قوفجان، فإن ما ينتظره المراقبون الآن هو المحادثات، التي وفقاً لصحيفة «يني أذربيجان» الصادرة في باكو، بدأت أوّل من أمس بين السلطات الأذربيجانية وممثّلين عن أرمن قره باغ في يفلاخ بمشاركة رامين محمودوف، مسؤول الاتصالات مع أرمن قره باغ، وبشير حاجييف، نائب الممثل الخاص للرئيس الأذربيجاني في المناطق «المحرَّرة» من الاقليم، وإيلكين سلطانوف، وفي المقابل سيرغي مارتيروسيان وديفيد ملكوميان عن الأرمن، وممثّلون عن قوة حفظ السلام الروسية. يُفترض أن تحدّد المحادثات آليات التطبيق لاتفاق وقف إطلاق النار، وربّما تبتّ في الوضع النهائي لقره باغ بما يتوافق مع المطالب الأذرية التي تعني الاندماج الكامل للإقليم مع أذربيجان وفقاً للدستور والقوانين الأذرية، وتخلّيه الكامل عن آمال الاستقلال والارتباط بأرمينيا التي أعلن رئيس وزرائها نيكول باشينيان أن «لا علاقة» لبلاده فيها. دعا ذلك بعضَ المواطنين إلى التجمّع في ساحة الجمهورية في يريفان، حيث اتّهموا باشينيان بالخيانة وطالبوه بالاستقالة، رغم أن الغالب أن وضع الرجل الداخلي، ما لم تحدث مفاجآت، لن يتأثّر بالهزيمة الجديدة، إذ إنه في عام 2021، أيّده أكثر من 54 في المئة من الشعب الأرميني في الانتخابات المبكرة التي جرت في أعقاب هزيمة تاريخية لحقت بالأرمن في ظلّ رئاسته للحكومة، عندما خسروا أجزاءً من قره باغ وأراضي محيطة بها كان الجيش الأرميني يسيطر عليها منذ مطلع التسعينيات.
في ظلّ انطلاق الجولة الأحدث من المفاوضات، التي تبدو أشبه بمراسم لتوقيع صكّ الاستسلام النهائي طوعاً أو عنوة، عنونت صحيفة «مساوات» الأذرية صفحتها الأولى بالقول: «قالوا سنذهب إلى يفلاخ، وقد أتوا»، وأشارت الصحيفة إلى أن كاتباً أرمنياً يُدعى زوري بالايان (شاعر من مواليد العام 1935 في ستيباناكرت عاصمة قره باغ، ويعيش الآن في يريفان)، تحدّث مرّة عن أن الخنازير ستشرب يوماً ما من مياه «كير» أو «كيرا»، وهو نهر يبلغ طوله 1515 كلم، وينبع من تركيا على الحدود مع جورجيا، ويمرّ في هذه الأخيرة، ثمّ يقطع أذربيجان ليصبّ في بحر قزوين، فيما تقع على ضفّته يفلاخ وتشرب من مياهه. وأضافت: «هذه المرّة، يأتي هؤلاء (الأرمن)، لكن من دون خنازيرهم التي كانت ستشرب من مياه يفلاخ»، متابعةً أن يفلاخ ستكون المكان الذي ستُوقَّع فيه وثيقة توحيد البلاد، علماً أن اسم المدينة قد يكون أُخذ من اسم عقيد روسي يُدعى يفلاخوف أو من اسم أحد أنواع الحساء المعروفة.
الجولة الأحدث من المفاوضات تبدو أشبه بمراسم لتوقيع صكّ الاستسلام النهائي طوعاً أو عنوة


من جهته، لفت عصمت أوزتشيلك، في صحيفة «آيدنلق»، إلى أن أذربيجان استعادت في حرب الـ2020، وبضوء أخضر من روسيا ودعم كامل من تركيا، كلّ الأراضي التي كانت احتلّتها أرمينيا بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، ثمّ بقي جزء من قره باغ تحت سيطرة المسلّحين الأرمن، مضيفاً المناورات الأرمينية – الأميركية المشتركة اللاحقة جاءت لتستهدف روسيا، كما أتى إعلان باشينيان قرب التوقيع على «بروتوكول روما» المرتبط بـ«المحكمة الجنائية الدولية»، بما يتيح اعتقال بوتين حال زيارته أرمينيا، ليفجّر قنبلة المعارك. وأشار أوزتشيليك إلى أن رئيس الوزراء الأرميني بدا، بعد حرب الـ44 يوماً، معتدلاً، إذ وافق، عام 2021، على صيغة التعاون الإقليمي لحلّ الأزمة على قاعدة «3 زائد 3»، أي بمشاركة روسيا وتركيا وإيران وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، ولكن الولايات المتحدة والغرب دخلا على الخطّ، فتراجع باشينيان عن الاتفاق و«تحوّل إلى دمية بيد واشنطن» لفتح باب التغلغل الغربي في القوقاز. بعد ذلك، «غضب بوتين، وقال إن قره باغ أذرية، وبعد ستة أيام، أعطى تلقائياً إشارة البدء بالعمليات لعلييف»، كما قال الكاتب، متابعاً أن «الغرب وقف إلى جانب باشينيان، فيما إيران قالت إنها ضدّ التدخل الغربي في شؤون القوقاز ومع سيادة أذربيجان على قره باغ. في المحصّلة، انتصرت أذربيجان، وتنظّفت قره باغ، وانتصر التعاون الإقليمي، وانهزمت مخطّطات الغرب وأميركا»، وفق أوزتشيلك.
على المقلب التركي، كتب محمد علي غولر، في «جمهورييات»، أن الولايات المتحدة كانت تعمل على دعوة أرمينيا إلى الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي»، وأجرت مناورات مشتركة معها، و«جلبت بالتالي المخاطر المختلفة إلى القوقاز». أمّا باشينيان، فكان يأمل، وفق غولر، في أن «تعطي أذربيجان وضعاً خاصاً لقره باغ بحماية آلية دولية غربية، وهذا الاقتراح لا يعني عملياً سوى نقل السيادة الأذرية في قره باغ إلى حماية دولية». وأضاف الكاتب أن «باشينيان لم يكن يتوقّع العملية الأذرية فوقع في خطأ الحسابات، بل وجد نفسه أمام مخاطر احتمال حصول انقلاب ضدّه. وفي المحصّلة، خسر لعبة الدعم الأميركي، كما خسر أرمن قره باغ بنيتهم العسكرية». وذكّر غولر بأنه «في قمّتَين عُقدتا برعاية الولايات المتحدة في تشرين الأول 2022 وأيار 2023، وقّع باشينيان على وثيقة اعتراف بقره باغ جزءاً من أذربيجان. وهذه الوثيقة، في رأي روسيا، تُغيّر مضمون اتفاق العاشر من تشرين الثاني 2020، كما تُغيّر طبيعة مهمّة قوات حفظ السلام الروسية في قره باغ. ولذا، جاء موقف روسيا قبل أسبوع، وعلى لسان بوتين، بأن قره باغ جزء من أذربيجان ليحرج باشينيان ويحشره في الزاوية». وأنهى الكاتب مقالته بالقول إن «باشينيان تلقّى هزيمة مزدوجة: خسارة لعبة الدعم الأميركية وتعريض الداخل الأرميني للقلاقل، ولم يبقَ أمامه سوى العودة إلى صيغة 3 زائد 3، فيما يكفي أن يقف بعيداً عن أفخاخ واشنطن وباريس».
في الاتّجاه نفسه، كتب سلجوق تورك يلماز، في صحيفة «يني شفق»، أن «حسابات الحقل الأرميني لم تطابق حسابات البيدر». وعدّ تورك يلماز أن «ممرّ لاتشين من أرمينيا إلى خانكندي (أي ستيباناكرت، عاصمة قره باغ) أتاح نقل شاحنات محمَّلة بالأسلحة إلى الأرمن في قره باغ. ولذا، أقفلت أذربيجان الممرّ، ودعت إلى استخدام آخر بديل يمرّ بالأراضي الآذرية ويصل إلى ستيباناكرت عبر مدينة آغدام في شمال المقاطعة، ولكن الأرمن رفضوا هذا الطريق، كما رفضته فرنسا». ورأى الكاتب أنه «كانت ثمّة قناعة لدى باشينيان بأن الولايات والغرب سيأتيان إلى جنوب القوقاز»، مستدركاً بأن «الردّ الأذريّ كان معبّراً، إذ دمّر الجيش الأذري مراكز المسلّحين وأسلحتهم وسيطر على بعضها». وخلص إلى أن «مخطّطات القوى الإمبريالية، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، تلقّت ضربة قوية. وبعد الآن، يمكن الاعتقاد أن تركيا وأذربيجان ستتفرّغان بكلّ قوة لفتح ممرّ زينغيزور».
بدوره، أعرب السفير المتقاعد، أولوتش أوزأولكير، في حديث إلى صحيفة «جمهورييات»، عن اعتقاده بأن «الغرب لم يستطع أن يستثمر في الصراع الحالي لتحقيق أيّ مكسب»، مضيفاً أن «روسيا لا تزال هي التي تهيمن على منطقة القوقاز»، متّهماً «الدياسبورا الأرمنية بأنها حرّضت الولايات المتحدة لتوسيع الحرب في أوكرانيا لتصل إلى القوقاز، ولكنها بذلك أوقعت أرمينيا وباشينيان في وضع خطير للغاية». وأشار أوزأولكير إلى أن «باشينيان موالٍ للغرب»، مستدركاً بأن «أرمينيا لا تزال تحت الهيمنة الروسية. في أرمينيا، قاعدتان عسكريتان لروسيا، والكهرباء والمياه والغاز الطبيعي كلّها تأتي من روسيا التي لا تريد التخلّي عن سيطرتها هناك»، معتبراً أن «باشينيان مغلول اليدين: يريد شيئاً ولكنه عاجز عن تحقيقه لأنه ليس قوياً. يفكّر في الغرب ولكنه يرى أمامه روسيا. يقترب من روسيا فيفقد استقلاله». ورأى أن «اتفاق وقف النار يعطي دوراً مركزياً لقوات حفظ السلام الروسية، وهذا يعني استمرار الدور الروسي هناك، ولكن لن يكون التأثير الروسي اليوم بالقوة نفسها التي كان عليها سابقاً». وعن علاقة أرمينيا بتركيا، قال أوزأولكير إنه «من دون تركيا لن تنال أرمينيا حريتها، لأن تركيا هي البوابة الوحيدة لأرمينيا على العالم الغربي»، مضيفاً أنه «بعد انتهاء قضية قره باغ، يجب أن تتّفق أرمينيا وأذربيجان. أمّا الغرب، فإنه يتدخّل في الأمر ليس للتوفيق، بل لتخريب اللعبة، وهذا لن يفيد لا باشينيان ولا أرمينيا».