لم تكُن الانتخابات في الولايات المتّحدة الأميركية يوماً تجسيداً فعلياً لإرادة الشعب، فنظامها الانتخابي مليءٌ بـ«الفلاتر» لغربلة المرشحين وضمان أن من يصل إلى البيت الأبيض يفي شروط الدولة العميقة والقوى المؤثرة فيها. عندما يتواجه مرشّحا الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تشرين الثاني، يوحيان بأن المعركة بين يمين محافظ و«يسار» ليبرالي، بينما، في الحقيقة، يتوافق المرشّحان والحزبان على معظم القضايا والملفات، وغالباً ما تكون نقاط الخلاف بينهما استعراضية بحت ولا تمسّ جوهرَ النظام الحاكم في واشنطن. تبدأ عملية تصفية المرشّحين باكراً، قبل انتسابهم إلى أحد الحزبين حتّى. لذلك، عندما يترشّح إلى أعلى منصب في البلاد، يكونون خالين من أي مفاجآت، وتطمئنّ المنظومة إلى أنه أيّاً يكن الفائز، فإنّ السياسات التي تحفظ مصالحها باقية ولن يمسّ بها أحدٌ. ليس صحيحاً، مثلاً، أنّ كلّ من مارس سياسة الحزبين في الولايات المتّحدة داعمٌ لإسرائيل، ولكنّ المناهض للصهيونية في الحزب الديموقراطي سقفه كرسي في مجلس بلدي في كاليفورنيا. وأقصى «اليسار» المتاح من أرباب رأس المال هو شخص مثل بيرني ساندرز الذي لا تختلف نظرته للسياسة الخارجية عن نظرة جورج بوش، الأب أو الابن. وحده دونالد ترامب، في السنوات الأخيرة، لم يتدرّج ضمن أيّ من الحزبين الحاكمين، بل دخل الاستعراض الديموقراطي من عالم الاستعراض وسبّب وجع رأس للدولة العميقة ما جعلها تبحث عن طرقٍ لتفادي مفاجآت أخرى مستقبلاً. فرغم عدم انتسابه إلى الحزب الجمهوري، تمكّن ترامب من التسلّل إلى البيت الأبيض عبر خوضه الانتخابات الحزبية التمهيدية، والفوز بها رغم أنّ استطلاعات الرأي في بداية العملية كانت تمنحه 2% من الأصوات، وكان كثيرون يرون في ترشّحه مجرّد ترويج لشخصه وبرنامجه التلفزيوني آنذاك. دورة عام 2024 لهذه الانتخابات التمهيدية تبدأ اليوم مع مؤتمر الحزب الجمهوري في ولاية آيوا في سهول وسط أميركا على ضفاف نهري الميسيسيبي وميسوري.
تكتسب المنافسة على المركز الثاني في الحزب الجمهوري أهمية خاصة في حال لم يتمكّن الرئيس السابق من السير في ترشّحه


دخلت الولايات رسمياً موسم الانتخابات الرئاسية المقرّرة نهاية هذا العام، في الخامس من تشرين الثاني تحديداً، وهذا يعني أنّ كلّ حدث محلّي أو عالمي يحدث الآن يُنظر إليه في واشنطن من منظور الانتخابات وحسابات الربح والخسارة. صحيح أنّ المنافسة على البيت الأبيض هي الطاغية هذا العام، ولكن الانتخابات أيضاً تقرّر موازين القوى بين الحزبين في الكونغرس. لو أُجريت انتخابات البيت الأبيض اليوم لفاز دونالد ترامب على جو بايدن بسهولة وفقاً لاستطلاعات الرأي، ولكنّنا ما زلنا في المراحل الأولى من العملية الممهّدة للانتخابات، وطريق عودة ترامب إلى البيت الأبيض مليئة بالعراقيل. إذ يواجه عدداً من المشكلات القانونية التي تلاحقه منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل أربع سنوات، خصوصاً تلك المتعلّقة بأحداث السادس من كانون الثاني 2021، عندما غزا مناصروه الكونغرس يوم تولّي بايدن الحكم.
في ولاية كولورادو شطبت المحاكم اسم ترامب من أوراق الاقتراع لأن مشاركته في التحريض على التمرّد تمنعه من الترشح إلى منصب رسمي. القضية الآن في يد المحكمة الأميركية العليا. فإذا ما أكّدت الحكم سيشكّل ذلك عقبة كبرى أمام ولاية ثانية لترامب. لذلك، تكتسب المنافسة على المركز الثاني في الحزب الجمهوري أهمية خاصة في حال لم يتمكّن الرئيس السابق من السير في ترشّحه. المرشحون الجمهوريون المتنافسون على المركز الثاني في الانتخابات التمهيدية الحزبية هم سفيرة ترامب السابقة إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي وحاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتس، وبدرجة أقل رجل الأعمال الهندي الأصل فيفيك رمسوامي. أما في الحزب الديموقراطي، فلا يوجد أيّ منافس بارز لجو بايدن رغم تقدّم الأخير في السن ووقوعه في كثير من المواقف المحرجة.


رغم الأهمية البالغة التي يوليها الأميركيون للانتخابات التمهيدية الممتدة على مدى ستة شهور، فإن عملية تصفية المرشحين ليست ملزمة وفيها شيء من الاعتباطية. إذ تختلف طريقة الاقتراع وقوانينه من ولاية إلى أخرى، بين انتخابات عامة يصوّت فيها عامة الشعب وفقاً لكيف يصنّفون أنفسهم حزبياً ومؤتمرات حزبية محصورة بالمنتسبين فعلياً للأحزاب. وفي حالة الاقتراع العام، غالباً يُنظر إلى النتائج كمجرّد اقتراح من الجمهور، فيما تعود الكلمة الفصل لمندوبي الأحزاب الذين قد يصوّتون ضد إرادة الشعب كما حدث مع بيرني ساندرز في مواجهة هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي عام 2016. هذه الخاصية ليست محصورة بالانتخابات التمهيدية، فحتّى في الانتخابات الرئاسية الرسمية، أصوات المقترعين ليست هي من تقرّر الرئاسة، بل هي بمنزلة توكيل من الشعب لمندوبي الولايات للتصويت للمرشّح الفائز في اقتراع المجمع الانتخابي، الجسم المخوّل انتخاب ساكن البيت الأبيض رسمياً. وهنا أيضاً تختلف الولايات بين الأكثرية التي تمنح أصواتها كافة للفائز، والأخرى التي تقسّم أصواتها نسبياً حسب نتائج التصويت. وقد حصل أن فاز بالانتخابات صاحب أكثرية الأصوات في المجمع الانتخابي رغم عدم حصوله على أكثرية التصويت الشعبي. حدث ذلك خمس مرات في تاريخ الولايات المتحدة ومرّتين في الألفية الحالية عام 2016 حين فاز ترامب على كلينتون رغم تفوّقها عليه بما يقارب ثلاثة ملايين صوت في التصويت الشعبي، وعام 2000 حين تفوّق بوش الابن على آل غور.
الإمبراطوريات المهيمنة لا تحبّ التغيير، فهي مرتاحة على وضعها وتفضّل أن يبقى كل شيء على ما هو عليه


إذا كانت العملية الانتخابية الممهّدة للانتخابات الأميركية تبدو معقّدة، فإنها كذلك وهذا أمر مقصود. الإمبراطوريات المهيمنة لا تحبّ التغيير، فهي مرتاحة على وضعها وتفضّل أن يبقى كل شيء على ما هو عليه. في المراحل المتقدّمة من الهيمنة كالتي تعيشها الولايات المتحدة اليوم، يصل الحرص على عدم المسّ بما هو ناجح إلى دفع المؤسسة إلى التمسّك بالرتابة خوفاً من أي مفاجأة. لذلك، كان الإصرار على إنجاح هيلاري في التمهيديات، والإصرار ذاته يتجسّد اليوم في التمّسك بـ«جو النعسان»، كما يسمّيه ترامب. قد يكون ترامب من خارج المؤسسة الحزبية المضبوطة، وهذا يزعج الدولة العميقة قليلاً، لكنّه ليس من خارج نادي القوى المؤثرة في واشنطن، فهو كان صديقاً لآل كلينتون قبل أن يصبح «جمهوريّاً»، وصديقاً لصديقهم القوّاد جيفري إبستين وكل من يدور في فلكهم من أوسخ أنواع البشر. حملته الانتخابية تكسر رتابة المشهد في واشنطن وهذا ما يحتاجه الاستعراض الديموقراطي في الولايات المتحدة.
السيرك ينطلق اليوم والتنافس بين الحزبين على السيطرة على البيت الأبيض والكونغرس سيحتدم أكثر كلما اقتربنا من شهر تشرين الثاني. لكن في نهاية المطاف، وخصوصاً بالنسبة إلى السياسة الخارجية وعالمنا العربي، أميركا جو بايدن لا تختلف كثيراً عن أميركا دونالد ترامب. ترامب يغتال في بغداد وبايدن يقتل في اليمن، وكلاهما يدعم حرب الإبادة في فلسطين. قد يكون المشهد الشعبي في الولايات المتحدة والغرب واعداً ويتغيّر ببطء، لكنّ واشنطن هي من تختار رئيسها اليوم، ولن يكون حليفاً لنا.



حزبان لا ثالث لهما
تظهر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية على مدى 160 عاماً هيمنة شبه كاملة للحزبين الرئيسين، الديموقراطي والجمهوري. في أربعين جولة انتخابية منذ أواسط القرن التاسع العاشر، لم يتخطَّ مرشّح ثالث من خارج الحزبين الحاكمين عتبة العشرة في المئة من الأصوات إلا في حالات تعدّ على أصابع اليدّ الواحدة. المرّة الأخيرة التي حصل ذلك كان في انتخابات عام 1992 عندما نال المرشّح المستقلّ الميلياردير روس بيرو 18.9% من الأصوات. أسهم ذلك في هزيمة جورج بوش الأب أمام بيل كلينتون في أعقاب حرب الخليج الأولى. ورغم أداء بيرو المميّز في وجه الحزبين، لم يفز بأيّ ولاية وبالتالي لم يفز بأيّ أصوات في المجمع الانتخابي. آخر مرّة تمكّن مرشّح من خارج الحزبين من الفوز بولايات كانت في انتخابات عام 1968 عندما فاز جورج والاس بخمس ولايات جنوبية بعد أن كان برنامجه الانتخابي يدعو إلى استمرار الفصل العنصري محاججاً بأن لكل ولاية الحق في تحديد سياساتها الخاصة تجاه الفصل العنصري.


ليس كل ما يتمنّاه الناخب يدركه


في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي عام 2016، سطع نجم بيرني ساندرز ولقي إعجاب فئة كبيرة من الشباب الليبراليين رأوا فيه صورة الجدّ اللطيف ذي اللكنة النيويوركية الثقيلة، وبديلاً أفضل من المرشّحة التي كانت تحظى بدعم المنظومة الحزبية، هيلاري كلينتون. كان ذلك في أعقاب حراك «احتلّوا وول ستريت» الذي أعطى الشباب فرصة لتذوّق «اليسار»، وجرّب «جدّو بيرني» ركوب الموجة كرافعة لترشيحه الرئاسي. وقد كاد ينجح، قبل أن يكتشف هو وناخبوه أن في الديموقراطية الحزبية الأميركية ناخبين «بسمنة» وآخرين «بزيت». وهناك بين مندوبي الأحزاب من هو ملزم بالتصويت في المؤتمر الحزبي وفقاً لنتائج التصويت الشعبي لمناصري الحزب الديموقراطي. لكن، في المقابل، يوجد مندوبون «سوبر»، ويحق لهم مخالفة التوجه الشعبي. هؤلاء بغالبيتهم الساحقة اختاروا هيلاري كلينتون مرجّحين كفتها حتى في الولايات التي خسرت فيها التصويت أمام ساندرز. في تسريبات لاحقة نشرتها «ويكيليكس»، تبيّن أن فريق كلينتون الانتخابي عمل سرّاً على مساعدة ترامب للفوز بترشيح الحزب الجمهوري، لأنهم كانوا يظنون أن فوز هيلاري المخضرمة على مبتدئ في السياسة مثل ترامب أمر حتمي.


كينيدي وويست وستاين


قد لا يملك المرشّحون المستقلون أي فرصة لتفجير مفاجآت انتخابية في وجه الثنائي الحزبي المهيمن، لكنهم قد يلعبون دوراً في حسم النتيجة لمرشح من الاثنين. البارز في هذه الانتخابات هو أنّ المرشحين المستقلّين الأبرز، حتّى الآن، يميلون إلى قضم أصوات مرشّح الحزب الديموقراطي أكثر من منافسه الجمهوري. نتكلّم هنا عن روبرت كينيدي جونيور، ابن السيناتور روبرت كينيدي الذي اغتيل خلال حملته الرئاسية عام 1968. وقد عُرف كينيدي بمواقفه ضد لقاح كورونا. وهناك أيضاً كورنيل ويست الأكثر تقدّمية بين المرشحين، وجيل ستاين (حزب الخضر) التي سبق أن ترشّحت عام 2016 وحصدت 1% من الأصوات.


معركة الولايات المتأرجحة


في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أدلى نحو 160 مليون ناخب بأصواتهم في خمسين ولاية ومقاطعة كولومبيا حيث العاصمة واشنطن. لكن، فعلياً، تُحسم الانتخابات جمهورياً أو ديموقراطياً وفقاً لنتائج عدد صغير من الولايات. فالنتائج على امتداد الخارطة الانتخابية شبه محسومة قبل فتح صناديق الاقتراع. ولايات الساحل الشمال الشرقي ديموقراطية، أو زرقاء وفقاً للألوان المعتمدة للأحزاب الأميركية، وكذلك ولايات الساحل الغربي. قلبُ أميركا وجنوبها أحمرُ الجمهوريين. وهناك خمس أو ست ولايات متأرجحة، وهي غالباً تقع على الحدود الفاصلة بين الولايات المعروفة الولاء. في الجولة الثانية من جو بايدن vs دونالد ترامب، إن لم تحمل الأشهر المقبلة مفاجآت قضائية أو غيرها، تتّجه الأنظار إلى الولايات التي فاز فيها ترامب عام 2016 وخسرها في الانتخابات الأخيرة، وهي: أريزونا، ويسكونسن، ميشيغان، جورجيا، وبنسلفانيا.