أعادت تصريحات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حول ضرورة وفاء جميع الدول الأعضاء في «حلف شمال الأطلسي» بالتزاماتها المالية، وتهديده إياها بأنه في حال عدم قيامها بذلك، «سيشجع» روسيا على مهاجمتها، سياسة «أميركا أولاً» إلى الواجهة، هذه المرة من باب التلويح، مرة جديدة، بعدم تأمين الحماية للدول التي «تتخلف» عن سداد المبالغ المطلوبة منها. وإذ لا تبدو تصريحات ترامب مستجدة، إلا أنّها تأتي في توقيت حرج، ولا سيما وسط انتشار معلومات تؤكد أنّ سقوط مدينة أفدييفكا الأوكرانية بأيدي القوات الروسية أصبح «مسألة وقت فقط». وهو ما أكّده المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، أمس، بقوله، في تصريحات إلى الصحافيين، إنّ المدينة الواقعة في الشرق الأوكراني «معرضة لخطر السقوط تحت السيطرة الروسية، بسبب نقص الذخيرة في ساحة المعركة»، منتقداً الكونغرس بسبب تأخره في تمرير المزيد من المساعدات لكييف. كما وصف بعض المسؤولين العسكريين الأوكرانيين، من جهتهم، الأوضاع في المدينة بـ«الحرجة»، مؤكدين أنّها «أخطر» ممّا كانت عليه في مدينة باخموت. رغم الهجوم الذي تعرض له ترامب، إلا أنّ تصريحاته تلك جعلت دول «الناتو» تسارع إلى «استعراض» إنفاقها الدفاعي؛ إذ أعلن مثلاً الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، الأربعاء، أن «18 من أعضاء الحلف الـ31 هم في طريقهم إلى تحقيق الهدف المحدد للإنفاق الدفاعي». وإذ وصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، تعليقات ترامب بـ«الغبية والمخزية»، متهماً إياه بـ«الخضوع لفلاديمير بوتين»، فإنّ موقفه لم ينسحب على غالبية الجمهوريين في الكونغرس، الذين يبدون مستعدين للوقوف إلى جانب ترامب ودعم مواقفه، مهما بدت الأخيرة «مبالغاً فيها». كما أنّ ترامب نفسه لم يبدِ أي نية للتراجع، حيث سخّف، الإثنين، من الانتقادات التي تطاوله، زاعماً أنّه هو «من جعل من (الناتو) تكتلاً قوياً» أثناء ولايته. وأردف: «عندما قلتُ سابقاً للدول العشرين التي لم تدفع حصّتها العادلة إنّه يتوجب عليها أن تدفع، وإلا فهي لن تستفيد من الحماية الأميركية، بدأت الأموال تتدفق»، لافتاً إلى أنّ هذه المساهمات المالية «تراجعت» بعد خروجه من البيت الأبيض. وعلى ضوء ذلك، سارع ستولتنبرغ، في أعقاب تصريح ترامب، إلى عرض تقديرات جديدة للإنفاق الدفاعي، أظهرت أن عدد الدول المتوقع أن تحقق الهدف، المتمثل في إنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، سيصل إلى 18، «بعدما كان 11 فقط العام الماضي». وإذ لم يأتِ ستولتنبرغ على ذكر أسماء أي من تلك الدول، فقد ذكرت «وكالة الأنباء الألمانية»، الأربعاء، أن ألمانيا حققت، من جهتها، هدف «الأطلسي»، للمرة الأولى منذ عام 1992، لافتةً إلى أن الحكومة الألمانية تخصّص، في سابقة من نوعها، ما يعادل 73.41 مليار دولار للإنفاق على الدفاع في العام الجاري.

بين الوعود والواقع
وبمعزل عن خلفيات تصريحات ترامب، فإن الإحصاءات تُظهر بالفعل «فجوة» واضحة بين المبالغ التي أنفقتها واشنطن من جهة، والدول الأوروبية «مجتمعة» من جهة أخرى. على سبيل المثال، أورد «معهد كيل للاقتصاد العالمي» الألماني، أمس، تقريراً جاء فيه أنّه يتوجب على «الاتحاد الأوروبي» «مضاعفة» مساعداته العسكرية لأوكرانيا، للتعويض عن فشل الولايات المتحدة في دعمها، بسبب تعطل ملف المساعدات في الكونغرس منذ أشهر. وأوضح المعهد البحثي، الذي يعمل على إحصاء المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية التي يتم التعهد بها، وتلك التي تُسلّم فعلياً لأوكرانيا، منذ بدء الحرب في 24 شباط 2022، أن الولايات المتحدة أرسلت 42,2 مليار يورو من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بين شباط 2022 وكانون الأول 2023، أي بمعدل ملياري يورو شهرياً. ومن جهته، تعهّد الاتحاد الأوروبي بإرسال 49,7 مليار يورو من هذه المساعدات، إلا أنّه خصص، فعلياً، حتى الآن، 35,2 مليار يورو لهذا الغرض. بتعبير آخر، وطبقاً للمصدر نفسه، فإنّ دول الاتحاد، التي تُصنّف من بين أغنى الدول في العالم، لم تنفق، بعد، 1% حتى من إجمالي ناتجها المحلي لعام 2021 لدعم أوكرانيا.
تصريحات ترامب جعلت دول «الناتو» تسارع إلى «استعراض» إنفاقها الدفاعي


«جبهة» المساعدات
معارضة ترامب لمبدأ تحمّل واشنطن الثمن «الأكبر» الذي يترتب على «حماية» كييف، لا تقتصر على مثل تلك التصريحات المثيرة للجدل، إذ بات معروفاً أنّ الرئيس السابق لا يزال يستغل نفوذه في أوساط الجمهوريين لتعطيل المزيد من المساعدات لأوكرانيا، رغم «التنازلات» الكبيرة التي يقدمها الديموقراطيون للتخفيف من وطأة أزمة الهجرة عبر الحدود الأميركية، ما يجعل حظوظ «عبور» أي حزمة مستقبلية لكييف في «مجلس النواب» شبه مستعصية، على الرغم من مرورها، في وقت سابق، في «مجلس الشيوخ». فبعدما صوّت الأخير لمصلحة حزمة مساعدات بقيمة 95 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، كانت عالقة في الكونغرس منذ أشهر، بموافقة 70 عضواً مقابل رفض 29، وهو ما يفوق الحد الأدنى للأصوات اللازمة لتمرير القوانين، اتّضح أنّه «من الباكر جداً» بالنسبة إلى كييف التفاؤل بأنّ المساعدات الجديدة أصبحت في «متناول اليد»، ولا سيما أنّ رئيس «مجلس النواب»، مايك جونسون، يتعرض لتهديدات بـ«الإطاحة به» من قبل بعض النواب اليمينيين المتطرفين، في حال طرح الملف على الطاولة مستقبلاً. وعليه، وبعد الإعلان عن تمرير الحزمة «في الشيوخ»، بدأت «ضجة» الجمهوريين المعارضين في «مجلس النواب» تهدد بـ«قتل» الحزمة، ما يترك مؤيدي تشريع المساعدات الطارئة أمام ضرورة البحث عن «أساليب غير تقليدية للدفع قدماً بمشروع القانون»، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز». ومن جملة تلك الأساليب، مناورة تُعرف باسم «عريضة التسريح»، تسمح للمشرعين بفرض طرح المشروع، في حال تمكنوا من جمع توقيعات غالبية أعضاء المجلس، البالغ عددهم 218 عضواً.

مؤتمر ميونخ «وجولة» زيلينسكي
تزامناً مع ذلك، وفي محاولة لـ«إنعاش» الجبهة الأوكرانية، انطلق في جنوب ألمانيا، أمس، «مؤتمر ميونخ للأمن»، على أن يستمر حتى 18 شباط، بحضور «نخبة» من مسؤولي الدفاع والأمن في العالم، باستثناء ممثلين عن إيران وروسيا، بذريعة أنّهم «غير منفتحين على الحوار الهادف». وإذ ينعقد هذا المؤتمر قبل أيام من حلول الذكرى الثانية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، سيشارك الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، فيه، خلال جولة «أوسع» يجريها في أوروبا، ستشمل، إلى جانب برلين، العاصمة الفرنسية باريس، لتوقيع «اتفاقات أمنية ثنائية»، والدعوة إلى زيادة الدعم العسكري لبلاده.