منذ أن قررت روسيا بدء عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط 2022، وما أعقب ذلك من حملة عقوبات غربية مكثفة، فشلت في ضرب الاقتصاد الروسي وزعزعة نظام الرئيس، فلاديمير بوتين، بالشكل الذي كان يأمله الغرب، سرعان ما تحول جزء كبير من الغضب في العواصم الغربية، وتحديداً في واشنطن، نحو «الأطراف» التي اعتُبرت مساهِمة في «الصمود» الروسي، وعلى رأسها الصين، التي أصبحت أخيراً تتعرض، أفراداً وشركات، لتهديدات بعقوبات ترقى حتى إلى مستوى تلك التي تُفرض على روسيا. والواقع أن بكين أحجمت، منذ اللحظة الأولى، عن تبني السردية الغربية حول الحرب الروسية - الأوكرانية، بل ونقضتها حتى، مؤكدةً أنّ «المخاوف الأمنية» الروسية، في ما يتعلق بتوسع «حلف شمال الأطلسي» نحو حدودها، «مبرّرة»، ويجب «معالجتها». كما رفضت، في غير محطة، ومن داخل «مجلس الأمن»، المشاركة في أي من العقوبات المالية أو الاقتصادية على موسكو، وعززت في المقابل تعاونها مع الأخيرة في مختلف المجالات.بناءً على ما تقدّم، كان لا بدّ من أن تُقابل التطورات الميدانية الأخيرة في أوكرانيا، والتي تَرجح أكثر فأكثر لمصلحة القوات الروسية، وتحديداً بعد سقوط مدينة أفدييفكا في قبضتها، بتصعيد غربي إزاء الصين. وفي هذا الإطار، نقلت شبكة «سي أن بي سي» الأميركية، مطلع الأسبوع، عن مسؤولين في الكونغرس قولهم إنّ الولايات المتحدة «تدرس فرض عقوبات على الشركات الصينية التي تعتقد أنها تساعد روسيا في تأجيج حربها في أوكرانيا». ورغم «التحذيرات» الأميركية السابقة من «إرسال بكين أسلحة» لموسكو، أو تعزيزها الروابط الديبلوماسية والاقتصادية معها في «زمن الحرب»، فإنّ الاتهامات الأحدث الصادرة عن واشنطن، تعدّ الأكثر «مباشرة» منذ شباط 2022. وطبقاً لما نقلته الشبكة عن السيناتور الديموقراطي، جيرالد كونولي، عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي، السبت، فإن المشرعين يدرسون بالفعل مثل هذه الخطوات، بعدما اقترح الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، إجراءات مماثلة، ستكون، في حال تطبيقها، العقوبات الأولى من نوعها ضد الصين.
واعتبر كونولي، في تصريحات على هامش «مؤتمر ميونيخ للأمن»، أنّه «يتعين على الصين أن تفهم أن أنواع العقوبات نفسها التي فرضت بالفعل على روسيا، وتؤثر على الإنتاجية والأداء الاقتصادي ونوعية الحياة فيها، يمكن أن تُطبق أيضاً على الصين»، على حدّ تعبيره. وفيما يُتوقع أن تنعكس مثل تلك العقوبات سلباً على الولايات المتحدة أيضاً، نظراً إلى العلاقات الاقتصادية «المتشابكة» بين البلدين - وهو ما كان يردع، حتى الساعة، صناع السياسة الأميركيين عن التصعيد اقتصادياً ضد بكين -، فإنّ كولوني قال إنّ تلك العقوبات قد تأتي «قريباً جداً»، مشيراً إلى أنّه «يأمل أن يكون التلويح بها بحدّ ذاته، جنباً إلى جنب حقيقة أنّ الأوروبيين جديون أيضاً في هذه المسألة، كافياً لتغيير نمط التفكير السائد في الصين».

الاتهامات الغربية
يقترن التصعيد الأميركي بجملة من «المعطيات» التي تدأب وسائل الإعلام والجهات الحكومية في واشنطن على بثّها، بالتزامن مع الذكرى الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية. إذ نشرت «سي أن بي سي» تقريراً جاء فيه أنّ تحليلاً جديداً كشف عن «أن روسيا لا تزال تحصل على كميات كبيرة من التكنولوجيا الغربية المعنية بالعقوبات، والضرورية لحربها في أوكرانيا»، متهماً هونغ كونغ وتركيا والإمارات، والصين تحديداً، بتأدية دور «مهم» في تحويل تلك المكونات إلى موسكو، وفي جعل «سلاسل التوريد» تتكيف مع ضوابط التصدير التي تهدف إلى «خنق» آلة الحرب الروسية. وأشار التقرير إلى أن التقنيات غربية الصنع شكلت «ما يقرب من نصف الواردات الروسية من المكونات الحيوية والسلع «ذات الأولوية القصوى» في ساحة المعركة، في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2023، وفقاً لبحث أجراه معهد «كيه أس إي» في كييف، بالتعاون مع مجموعة العمل الدولية «يرماك - ماكفول» المعني بدراسة العقوبات المفروضة على روسيا. كما ركز على الآلات المستخدمة في مجال الدفع وصناعة الطائرات والسيارات، «والتي تتيح إنتاج هياكل الأسلحة وأجزاء الطائرات ومكونات الصواريخ والطائرات من دون طيار والإلكترونيات الدقيقة» (CNC Machines)، لافتاً إلى أنّه رغم الضرر الذي ألحقته العقوبات الأوروبية في هذا المجال، فإنّ الصين «تتدخل على الأرجح لسد الفجوة». وتابع أنّ الشحنات الصينية من الآلات المشار إليها إلى روسيا زادت «عشرة أضعاف»، منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
كان لا بدّ أن تُقابل التطورات الميدانية الأخيرة في أوكرانيا بتصعيد أميركي إزاء الصين


وفي وقت سابق في تموز 2023، خلص تقرير استخباراتي أميركي إلى أن الصين «أصبحت تشكل، بشكل متزايد، دعامة مهمة لمجهود روسيا الحربي، وربما تزود موسكو بالتكنولوجيا الرئيسة والمعدات ذات الاستخدام المزدوج المستعملة في أوكرانيا». من جهتها، تؤكد بكين أنّ العلاقات التجارية مع موسكو لا تستهدف «أي طرف ثالث»، رافضةً أن يتم «تسليح التجارة». وبالأرقام، أظهرت البيانات التي نشرتها «الإدارة العامة للجمارك الصينية»، في كانون الأول 2023، أن التجارة بين الصين وروسيا وصلت إلى 218.2 مليار دولار بين كانون الثاني وتشرين الثاني 2023، متجاوزة إجمالي قيمتها لعام 2022 بأكمله. ومن جملة المواقف الصينية التي «أزعجت» الغرب أيضاً، تنديد الصين المستمر بالعقوبات «أحادية الجانب» التي تُفرض على روسيا، بالإضافة إلى اللقاءات التي استمرت طوال مدة الحرب الروسية - الأوكرانية، والتي تعهد خلالها الطرفان بـ«تعميق الروابط»، فضلاً عن تأكيد بوتين، في لقاء مع وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، في سان بطرسبرغ في أيار 2023، أنّ بلاده «تتغلب على صدمة العقوبات الغربية أحادية الجانب»، وأنّها مستعدة «لاستئناف النمو الاقتصادي والتعاون مع الصين في إطار مبادرة (الحزام والطريق)».
وإذ حاولت الصين، في أكثر من محطة، «موازنة» العلاقات بين مختلف الأطراف المعنية بالصراع، وطرح نفسها كـ«وسيط للسلام»، مؤكدةً أنّ الشراكة بينها وبين الدول الأوروبية وسائر الدول الأخرى «لا متناهية»، «تماماً على غرار علاقاتها (اللامحدودة) مع روسيا»، فقد اتّضح أنّ الغرب، وفي مقدمته الولايات المتّحدة، لم يستسغ موقف الصين الرافض للانضمام إلى محاولات معسكره «عزل» روسيا عن الساحة الدولية. إذ رأى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في شباط 2023، أنّ خطة السلام التي طرحتها بكين، تهدف إلى «صرف انتباه العالم عن دعم الأخيرة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين». واللافت أن تصريحات الصين التي تتحدث عن ضرورة الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب، «واحترام سيادة الدول»، جاءت بمعظمها كـ«تبرير» لتصريحات كانت قد صدرت عن بعض المسؤولين الصينيين المنتمين إلى جناح «أكثر تطرفاً» في دعمه لروسيا، من مثل السفير الصيني لدى فرنسا، لو شاي، الذي قال، في مقابلة تلفزيونية، في نيسان عام 2023، إن الدول المنبثقة عن «الاتحاد السوفياتي» لا تتمتع بوضع فعلي في القانون الدولي، «لأنه لا يوجد أي اتفاق دولي يكرس وضعها كدول ذات سيادة»، ما دفع بوزراء خارجية إستونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى استنكار تلك التعليقات، وبالخارجية الصينية والسفارة الصينية في فرنسا إلى «تبريرها»، والتأكيد أنّها تعبر عن «رأي شخصي».

«الوساطة» الصينية
في الشهرين الماضيين، بدت أوكرانيا مصرة على أن تؤدي دولة واحدة دور الوساطة في حربها مع روسيا، وهي الصين. وتجلى هذا الإصرار الأوكراني، وخصوصاً، في «منتدى دافوس الاقتصادي»، في كانون الثاني الماضي، عندما أكّد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ووزير الخارجية وعدد من المسؤولين الأوكرانيين الآخرين، أنّه على الصين «المشاركة بقوة في خطة السلام الأوكرانية». على أنّ بعض وسائل الإعلام اتهمت بكين، التي غادر رئيس وزرائها، لي تشيانغ، دافوس، من دون منح المسؤولين الأوكرانيين أي فرصة لتبادل حديث ولو على هامش المنتدى، بـ«تجاهل» كييف عمداً. وعليه، يرى بعض المراقبين أنّ الصين، التي قوبل عرضها، سابقاً، برفض من المسؤولين الأميركيين والأوكرانيين، لم تعد متحمّسة للتوسط في اتفاق سلام، بعدما أصبحت «الدفة» تميل لمصلحة روسيا بالفعل، وسط شحّ الإمدادات الأوكرانية، والإشغال الدولي الذي تسببه الحرب الدائرة في غزة. وطبقاً لأصحاب هذا الرأي، فقد تحول تركيز بكين نفسها إلى غزة، ما قلّل حتى من احتمال انخراطها في محادثات جديدة حول الملف الأوكراني، يمكن أن تخلق، بالإضافة إلى ذلك، توتراً في العلاقات مع حليفتها موسكو.