لم يكن 2023 عاماً عادياً بالنسبة إلى الأوكرانيين؛ فبعدما تمكّنوا في 2022 من وقف هجوم روسي وصل إلى تخوم العاصمة كييف، واستعادة قرابة ستة آلاف كيلومتر من أراضيهم، في إنجاز يُنسَب جانب كبير منه إلى قائد القوات البرية الأوكرانية، أولكسندر سيرسكي، المعيَّن حديثاً قائداً عاماً للجيش، خلَفاً لفاليري زالوغني، جاء العام التالي ليحمل مفاجأة باخموت. إذ رغم تمكّن كييف من اتّباع «إستراتيجية استنزاف» ضدّ الروس في النصف الأول منه هناك، إلّا أنّ موسكو قلبت المعادلة في النصف الثاني في المدينة المذكورة، وأسهمت في توهين استعدادات الأوكرانيين لشنّ «هجومهم المضاد». ولذا، مع حلول 2024، شرع القائد الجديد للجيش، المعروف بـ«مهندس الدفاع عن باخموت»، في تنفيذ إستراتيجية مناقضة لتلك المتّبعة سابقاً، وهذا ما تجلّى في قراره الانسحاب من أفدييفكا، التي اختزلت خسارتها جملة تحدّيات تواجه الوافد الجديد، أولها احتدام الخلافات بين أطراف النخبة السياسية في أوكرانيا، المتمسكة حتى اللحظة بتوهمها إمكانية تحقيق نصر عسكري على روسيا، رغم ارتفاع خسائرها، وواقعها الاقتصادي المترهّل (بلغ عجز الموازنة الأوكرانية قرابة الـ40 مليار دولار هذا العام)؛ وثانيها تضاؤل اهتمام الداعمين الغربيين، وعلى رأسهم واشنطن، بمساندة كييف.
كييف: من الهجوم إلى الدفاع
مع إتمام الحرب عامها الثاني، ثمّة مَن يرى أن القيادتَين العسكرية والسياسية في أوكرانيا استفادتا من دروس باخموت، التي كان لعدم سحب القوات منها، في وقت مبكر من عام 2023 (على وقع خلافات بين زيلينسكي المتمسّك بخيار البقاء، وزالوغني الأكثر ميلاً وقتذاك إلى خيار الانسحاب)، تداعيات كارثية على معنويات الجيش الأوكراني، وقدرته العسكرية واللوجستية على تزخيم الهجوم المضاد في وقت لاحق. وإذ تردّدت أصداء تلك الدروس في التصريحات التشاؤمية من ناحية، على أمل استدرار المزيد من دعم الحلفاء الخارجيين، والمنطق التبريري من ناحية أخرى، لتفادي الانتقادات الشعبية مع اقتراب موعد الانتخابات نهاية آذار المقبل، فهي انعكست بوضوح في الانسحاب من أفدييفكا، والذي يمكن عبره قياس كيفية اشتغال القائد العسكري الجديد على ردم الفجوة بين تطلعات مؤسسة الرئاسة، والموارد العسكرية المتضائلة لدى الجيش.
وفي هذا الإطار، اعتبر القائد الجديد للقوات الأوكرانية أن قرار إخلاء أفدييفكا جاء بدافع «تجنّب حصار جنوده والحفاظ على حياتهم كأولوية قصوى»، بعدما كان قد أكد، في مقابلة مع قناة «ZDF» الألمانية، أن «العدو يتقدّم حالياً على طول خط الجبهة تقريباً»، وأن قواته بصدد «التحوّل عن أسلوب العمليات الهجومية نحو إستراتيجية ذات طابع دفاعي». ووسط تكتم روسي وتحفّظ أوكراني على حصيلة الخسائر البشرية لهذه المعركة المحتدمة منذ الخريف المنصرم، والمقدّرة بعشرات الآلاف، وفقاً لتقارير غربية، اتّهم سيرسكي القادةَ العسكريين الروس بالاستهتار بأرواح جنودهم، عبر اتّباع تكتيك «هجمات اللحم الحي». ومن جهته، أرجع زيلينسكي، لدى مشاركته في «مؤتمر ميونيخ للأمن» (16-18 الجاري)، تراجع قواته في أفدييفكا إلى نقص الذخيرة، وتراجع المساعدات العسكرية الغربية، زاعماً أن عدد قتلى الجانب الروسي فاق عدد قتلى قواته في المدينة بنحو سبعة أضعاف، مع العلم أن تقديرات الاستخبارات الأميركية لإجمالي الخسائر البشرية في الحرب، تتحدث عن نحو 315 ألف عنصر بين قتيل وجريح من الجيش الروسي، ونحو 130 ألف قتيل وجريح من الجيش الأوكراني.
على أي حال، يتنامى القلق لدى كييف، التي قرعت جرس الإنذار من قرب نفاد مخزونها من صواريخ الدفاع الجوي بحلول شهر آذار المقبل، بعدما وجدت نفسها أخيراً مضطرة إلى تقنين استخدام ذخائر المدفعية، بمعدلات رمي تصل إلى خُمس معدلات الرماية المدفعية للجيش الروسي، في حين تراوح معدّل استهلاك جيشها لهذا النوع من القذائف، على مدى أشهر خلت، ما بين 4000 و7000 قذيفة في اليوم الواحد. وما يفاقم هذا الواقع «الصعب»، إخفاق الكونغرس في تمرير حزمة دعم لأوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار، وعدم إيفاء البلدان الأوروبية بوعودها بتوفير مليون طلقة ذخيرة بحلول الشهر المقبل، وهو ما خلّف شعوراً بالخذلان لدى كييف.
اضطرّت كييف إلى تقنين استخدام ذخائر المدفعية، بمعدلات رمي تصل إلى خُمس معدلات الرماية المدفعية للجيش الروسي


في خضم ذلك، وفي الوقت الذي أفضت فيه تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة إلى خفض سقوف الطموحات العسكرية لدى حكومة زيلنسكي، عاد الحديث عن ضرورة البحث عن حلّ سياسي للصراع، في الدوائر الغربية. وفي هذا الإطار، دعا تقرير جديد صادر عن «معهد كوينسي للحوكمة الرشيدة»، الولايات المتحدة، إلى الاضطلاع بـ«دور أكبر في الضغط من أجل التوصّل إلى تسوية تفاوضية»، مبرّراً ذلك بتراجع فعالية الضغوط العسكرية والاقتصادية على موسكو، عقب نجاح الأخيرة في التغلّب على مشكلات سوء الإدارة والتخطيط على أكثر من صعيد، وضعف الكفاءة الاستخبارية لدى أجهزتها الأمنية والعسكرية، إضافة إلى تمكّنها من زيادة عديد قوّاتها البرية من 180 ألف جندي في عام 2022، إلى ما يقرب 450 ألف جندي اعتباراً من كانون الأول الماضي. واعتبر معدّو التقرير أن الخيار الأفضل المتاح أمام أوكرانيا هو «التوصّل إلى تسوية تفاوضية تحمي أمنها»، ولا سيما أنّ روسيا ستجد على المدى القصير أنها «ليست في حاجة ماسة إلى مثل هذه التسوية، لأنها تعتبر أنّ استمرار القتال في الوقت الراهن سيحسّن موقفها». ومن هنا، شدّد التقرير على أهمية مراعاة مصالح روسيا الأمنية طويلة الأمد، معتبراً أن إحياء قنوات التواصل المباشر بين واشنطن وموسكو، كما جرى إبّان أزمة الصواريخ الكوبية، في موازاة مبادرة الغرب إلى حصر دعمه العسكري لكييف بغرض الحفاظ على الوضع الراهن على الجبهة، إلى جانب حشد دعم القوى الأخرى غير الغربية، من الجنوب العالمي، كالبرازيل وجنوب أفريقيا، كلها تشكّل «شروطاً أساسية لجلب الكرملين إلى طاولة المفاوضات». وخلص تقرير المعهد إلى أن أيّ تسوية سلمية للصراع يجب أن تعالج ثلاثة أهداف رئيسية: منح ضمانات لأوكرانيا والدول الأوروبية الأخرى المجاورة لروسيا والمنضوية ضمن «حلف شمال الأطلسي» بعدم التعرّض لها مستقبلاً من قِبل موسكو، وضمانات موازية للأخيرة بعدم انضمام كييف إلى أي حلف (أمني) مع واشنطن، وعدم استضافة الأوكرانيين أسلحة أو قوات تابعة لـ«الناتو».

الجبهة البحرية: «الإنجاز اليتيم»
يستمرّ حديث جنرالات كييف عن عزمهم توجيه إستراتيجية بلادهم لهذا العام نحو تطوير برنامجها الخاص بالصناعات العسكرية، وخصوصاً المسيّرات والصواريخ البعيدة المدى، والقادرة على ضرب أهداف بعيدة المدى، كالسفن الحربية ومنشآت مدنية حيوية داخل روسيا، وذلك لتقليص الفجوة في التسليح، كمّاً ونوعاً، والذي تجليه تقديرات استخبارية بسقوط ما لا يقلّ عن 800 قنبلة موجهة، زنة الواحدة منها تراوح بين 550 و3300 رطل خلال معارك أفدييفكا، أو فوارق القوة النارية التي بلغت نسبتها عشرة إلى واحد في المدينة نفسها. وعليه، لم يبدُ مفاجئاً إعلان أوكرانيا، أواسط الشهر الجاري، استهداف سفينة الإنزال الروسية «القيصر كونيكوف» (البالغ طولها 360 قدماً) قبالة ساحل شبه جزيرة القرم، عبر مسيّرة بحرية هجومية من طراز «Magura V5» محلية الصنع. وصاحَب ذلك حديث رئيس الوزراء الأوكراني، دينيس شيمهال، عن ضرب «ما لا يقلّ عن 14 ألف هدف من الأصول الحيوية الروسية عبر المسيّرات، وهي أهداف راوحت بين خنادق وتحصينات، ومعدات عسكرية حديثة من ضمنها نظام "Buk M2" للدفاع الجوي، وطائرة "Su-35"». ووفقاً لشيمهال، تمكّنت المسيّرات البحرية من «شلّ أسطول العدو في البحر الأسود وضمان أمن الممر اللوجستي المائي»، في إشارة إلى المنفذ البحري الذي تواصل عبره أوكرانيا تصدير منتجاتها.
وفي تعليقها على ذلك، ترى وكالة «بلومبرغ» أن الضربات البحرية الأوكرانية ضدّ السفن والمواقع التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي، مثل واقعة ضرب سفينة الإنزال الكبيرة «نوفوتشركاسك» في كانون الأول الماضي، وقبلها ضرب مقرّ الأسطول في سيباستوبول، وقطع بحرية تابعة له في ميناء فيودوسيا، أثبتت فعاليتها إلى درجة أنها ساعدت أوكرانيا في كسر جهود الكرملين لمنع صادراتها من الحبوب عبر البحر الأسود (شحنت كييف 10 ملايين طن من السلع، معظمها من الحبوب، منذ آب الماضي)، فيما اضطرت روسيا إلى نقل سفنها بعيداً من أماكن الاستهداف، والاكتفاء بنشر أنظمة دفاعية حول قواعدها البحرية. وتابعت «بلومبرغ» أن الهجمات الأوكرانية المشار إليها، سواء في اتجاه الجسر الواصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم، أو المواقع والسفن الروسية المتمركزة غرب القرم، زادت الضغط على دفاعات روسيا في تلك المنطقة، وكذلك على خطوط الإمداد لقواتها في جنوب أوكرانيا، مرجّحة في الوقت نفسه أن يكون لهذه العمليات الهجومية الأوكرانية تأثير «محدود» على سير المعركة.