بكين | وصل الرئيس الصيني، شي جين بينغ، الإثنين، إلى «الإيليزيه»، حيث اجتمع صباحاً مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أرسولا فون دير لاين، قبل أن يعقد، في مدة ما بعد الظهر، لقاءً ثانياً مع الرئيس الفرنسي. وبذلك، يكون شي قد افتتح زيارة إلى القارة الأوروبية، هي الأولى من نوعها منذ خمس سنوات، تمتد من الخامس حتى العاشر من الشهر الجاري، وتشمل، جنباً إلى جنب فرنسا، كلاً من صربيا والمجر. وفي حين دأب عدد من وسائل الإعلام الغربية على الحديث عن «تحديات» تواجه الرئيس الصيني في قارة أصبحت «أكثر تشدداً» إزاء بكين، «وأكثر اصطفافاً مع واشنطن»، منذ زيارة شي الأخيرة إليها عام 2019، في إشارة إلى جملة من الخطوات التصعيدية التي اتخذها عدد من أعضاء «الاتحاد الأوروبي»، أخيراً، ضدّ الصين، فإنّ عدداً من المراقبين يعتبرون أنّ اختيار الرئيس الصيني لهذه الدول الثلاث، والأجواء المحيطة بالزيارة الفرنسية، وتلك المتوقعة خلال الزيارتين المقبلتين، تعكس تبايناً واضحاً في صفوف الدول الأوروبية إزاء العلاقة مع الولايات المتحدة بشكل عام، في وقت أصبحت فيه بعض تلك الدول تدعو إلى «عدم الانجرار الكامل» خلف الأميركيين، وتسعى، رغم ما يتم الحديث عنه من مخاوف حول «عدم التوازن» في العلاقات الاقتصادية الأوروبية - الصينية، إلى رفع مستوى تلك العلاقات.وفي السياق، أكد تقرير في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، قبيل الزيارة، أنّ الدول الثلاث التي يزورها شي، تبدو جميعها، ولو بدرجة متفاوتة، مترددة إزاء «الترتيب الذي فرضته واشنطن على العالم بعد انتهاء الحرب العالمية، وترى أنّ الصين تفرض ثقلاً موازناً ضرورياً في وجه الأولى، وتتوق إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الأخيرة». كما تحدثت الصحيفة الأميركية عن «انسجام واضح بين شي وماكرون»، يعود، بشكل رئيسي، إلى أنّ الرجلين يتشاركان وجهة نظر مفادها أنّه يجب «إعادة هندسة» النظام القديم بشكل يأخذ في الحسبان «القوى الأخرى». وبالفعل، كان الرئيس الفرنسي قد زار، خلال الأشهر الستة الماضية، الهند والبرازيل، في محاولة لتصوير فرنسا على أنّها «جسر» بين دول «البريكس» والقوى الغربية، في وقت يتزايد فيه التوتر بين أطراف «الجنوب العالمي» والأخيرة. ونهاية الشهر الماضي، حذر ماكرون، في خطاب في جامعة «السوربون»، من أن «أوروبا قابلة للاحتضار»، مشدداً على ضرورة عدم «تبعية» القارة للولايات المتحدة عندما «تُحاور» مناطق أخرى حول العالم، في إطار «إستراتيجية» باريس الداعية إلى «االاستقلال الإستراتيجي» لـ«لاتحاد الأوروبي» وتكامله دفاعياً واقتصادياً.
من جهتها، كانت المجر من ضمن مجموعة الدول التي عارضت، منذ البداية، خطة «الاتحاد الأوروبي» لإدراج بعض الشركات الصينية في «القائمة السوداء»، بذريعة «توريد بكين التكنولوجيا المستخدمة في الأسلحة الروسية»، والتي أثارها مرة جديدة، نهاية الشهر الماضي، عدد من المسؤولين في الاتحاد. كما أنّ رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، كان قد أخّر، بشكل منفرد في وقت سابق، حزمة مساعدات أوروبية لأوكرانيا، لمدة ستة أسابيع تقريباً. وحالياً، تبدو بودابست على موعد مع استثمارات صينية ضخمة، ولا سيما في قطاع السيارات، من المتوقع أن تخلق آلاف الوظائف في البلاد، بحسب وكالة «بلومبرغ»، التي تابعت أنّ المجر تبحث أيضاً الاستعانة بالقروض والتكنولوجيا الصينية والمقاولين الصينيين لبناء خط سكة حديد جديد.
الدول الثلاث التي يزورها شي، تبدو جميعها، ولو بدرجة متفاوتة، مترددة إزاء «الترتيب الذي فرضته واشنطن على العالم»


أمّا في ما يتعلق بصربيا، فقد بنت الأخيرة، خلال السنوات الـ15 الماضية، «شراكة إستراتيجية شاملة» مع الصين، ترتكز على «علاقة اقتصادية وسياسية وثيقة»، بحسب تقرير أورده «المجلس الأطلسي». وتُعتبر الصين أكبر مزود فردي للاستثمارات الأجنبية المباشرة في صربيا، وثاني أكبر شريك تجاري لها بعد «الاتحاد الأوروبي»، وشريكاً رئيسياً في تطوير البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها في البلاد. واللافت، أنّ زيارة شي تتزامن مع الذكرى السنوية الـ25 لقصف «حلف شمال الأطلسي» للسفارة الصينية في بلغراد، والذي ترك «تأثيراً بالغاً على الرأي العام الصيني تجاه (الناتو) والنظام العالمي الذي برز بعد سقوط جدار بارلين»، بحسب الموقع نفسه.
وبالنتيجة، ورغم أن زيارة شي لأوروبا تأتي بعد أسابيع من تحذير وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، المسؤولين في بكين من أنّ «الطاقة المفرطة الصينية تمثل مشكلة للعالم»، وتكرار المستشار الألماني أولاف شولتس للرسالة نفسها بعد أيام، واتخاذ عدد من الدول الأوروبية إجراءات وصفها مراقبون بأنها تهدف إلى «فك الارتباط» مع بكين، ولا سيما في «القطاعات الحساسة»، وإلقاء ألمانيا، الشهر الماضي، القبض على أربعة ألمانيين بذريعة «التجسس لحساب الصين»، بالإضافة إلى الإجراءات الأوروبية التي تصفها بكين بـ«الحمائية» ضد صناعاتها، فإنّ دولاً أُخَر، بحسب «بلومبرغ»، تبحث بالفعل عن «المزيد من الاستثمارات الصينية».

نتائج زيارة باريس
اعتبر الرئيس الصيني، في أعقاب اللقاء مع فون دير لاين وماكرون، أنّه «من منظور الميزة النسبية أو الطلب في السوق العالمية، على حدّ سواء، لا يوجد شيء يسمى مشكلة القدرة الإنتاجية المفرطة الصينية»، فيما أكد ماكرون أنّ «(الاتحاد الأوروبي) يرفض منطق فك الارتباط، ويرحب باستثمار وتعاون الشركات الصينية في أوروبا - بل هو بحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى -، ويأمل في تكثيف التعاون مع الصين والحفاظ بشكل مشترك على أمن سلاسل القيمة وسلاسل الإمداد واستقرارها في أوروبا». وحول أوكرانيا، أكّد شي أنّ «الصين لم تخلق أزمة أوكرانيا، وليست طرفاً فيها»، مضيفاً أنّها «تدفع طوال الوقت في اتجاه عقد محادثات سلام». كما حاول التخفيف من المخاوف الفرنسية حول «عدم التوازن» في الميزان التجاري بين بكين والدول الأوروبية، مبدياً استعداد «الصين لاستيراد المزيد» من المنتجات العالية الجودة وتلك الزراعية من فرنسا. وبحسب وكالة «شينخوا»، فقد وقع ماكرون وشي نحو «20 وثيقة تعاون ثنائي»، في مجالات من مثل التنمية الخضراء وصناعة الطيران والأغذية الزراعية والتجارة والتبادل البشري.
وفي نهاية اللقاء، أصدر الرئيسان أربعة بيانات مشتركة حول الوضع في الشرق الأوسط، والذكاء الاصطناعي والحوكمة العالمية، والتنوع البيولوجي والمحيطات، بالإضافة إلى التبادلات والتعاون في مجال الزراعة. وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط، تطرق البيان، الذي نشره موقع الرئاسة الفرنسية، بشكل خاص إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث أكد معارضة شي وماكرون «للهجوم الإسرائيلي على رفح، والذي سيؤدي إلى كارثة إنسانية على نطاق جديد، ونزوح قسري للمدنيين الفلسطينيين». كما شدد الطرفان «على الحاجة الملحة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار للسماح بوصول المساعدات الإنسانية على نطاق واسع وحماية المدنيين في قطاع غزة»، واتخاذ جميع الخطوات اللازمة لتطبيق «حل الدولتين». أيضاً، تطرق الطرفان إلى قضية «النووي الإيراني»، مشيرين إلى أن إبرام «خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015 شكل «إنجازاً مهماً للديبلوماسية المتعددة الأطراف»، ومعربين عن مخاوفهما إزاء تصاعد الأوضاع لتشهد حرباً إقليمية أوسع.