صنعاء | منذ ما يزيد على عام ونصف عام، تفرض حكومة الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، ما يشبه عقاباً جماعياً على مئات الآلاف من اليمنيين العاملين في الجهاز الإداري للدولة، دونما مبرر. مآسٍ إنسانية لا حصر لها أفرزها قرار نقل البنك المركزي الصادر عن هادي أواخر أيلول/ سبتمبر 2016، والذي جاء عقب تهديدات أميركية تلقّاها الوفد الوطني المفاوض في محادثات الكويت مطلع آب/ أغسطس من العام نفسه. سرعان ما تحوّل القرار إلى أداة حرب استهدفت مصادر دخل 800 ألف موظف في الشمال، من إجماليّ مليون ومئتي ألف هم عداد موظفي الدولة في اليمن، والذين يشكلون 23% من إجماليّ القوى العاملة في البلاد.

هذا العقاب الجماعي الذي سبق أن حذرت منه المنظمات الدولية، داعية الأطراف كافة إلى تجنيب البنك تبعات الصراع، تسبّب في تشريد الآلاف من الموظفين من منازلهم، وكذلك في وفاة المئات من المتقاعدين الذين يعانون من أمراض مزمنة بعدما عجزوا عن سداد فاتورة العلاج، كما دفع بآخرين إلى بيع مدخراتهم ومنازلهم وسياراتهم، بل وأدواتهم المنزلية مقابل البقاء، فيما وجد أكاديميون ومهندسون ومعلمون وأدباء أنفسهم مجبورين على تعاطي مهن يدوية. وعلى أثر تلك التداعيات، وجّهت حكومة صنعاء الجهات الأمنية والقضائية بإلزام أصحاب المنازل المستأجرة بعدم طرد أيّ أسرة في حال عدم تمكنها من سداد الإيجار. ودعت المدارس الخاصة إلى مراعاة ظروف الآباء، بعدما تعرّض العديد من الطلاب للطرد بسبب عجز أهاليهم عن سداد الرسوم الدراسية.

«إحلال»... وإدارة عشوائية

حكومة هادي التي سبق أن اتهمت «أنصار الله» بوقف رواتب المئات من كبار المسؤولين الموالين لـ«الشرعية»، تنصّلت من وعود قطعتها أمام الأمم المتحدة بصرف رواتب موظفي الدولة من دون استثناء في أيلول/ سبتمبر من عام 2016، إذ إنها ربطت صرف رواتب موظفي الدولة بالاعتراف بشرعيتها من قبل صنعاء، من خلال الاعتراف بقرار نقل البنك وتسليم ميناء الحديدة. شروط تعجيزية أعقبت تعلّل حكومة هادي بذرائع أخرى، من بينها تسليم قاعدة بيانات موظفي الدولة من قبل حكومة الإنقاذ. وعلى الرغم من استجابة سلطات صنعاء للمطلب الأخير، وتسليمها قاعدة البيانات تلك عبر مكتب الأمم المتحدة، إلا أن السلطة «الشرعية» أصرّت على فرض العقاب الجماعي على الموظفين. إصرار بدت واضحة من خلفه نية اتخاذ نقل البنك ذريعة لمصادرة الإيرادات العامة للدولة في المحافظات الجنوبية، وتشديد الحرب الاقتصادية على «أنصار الله»، وتعطيل مؤسسات الدولة العاملة في صنعاء، وإنشاء مؤسسات موازية لها في عدن.

اكتفت حكومة هادي بطباعة كميات كبيرة من الأموال من دون غطاء


وفي ظل فشل المساعي التي بُذلت من قِبَل منظمات المجتمع المدني لثني «الشرعية» عن قرارها غير المعلن، والذي قضى بوقف صرف رواتب 800 ألف موظف في الشمال يعيلون 4.2 ملايين نسمة، أقرّت حكومة أحمد عبيد بن دغر، في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، في أول ميزانية عامة اعتمدتها في عدن، تعيين 425 ألف جندي وضابط موالين لـ«الشرعية»، وقرابة 200 ألف موظف مدني، بينهم آلاف في درجات وظيفية عالية، وهو ما عدّه مراقبون بمثابة استبدال لآلاف من الموظفين الجدد بموظفي صنعاء الأساسيين، والمشمولين بكشوفات عام 2014، والذين سبق أن التزمت حكومة بن دغر بصرف رواتبهم. هذا «الإحلال» غير المعلن رأى فيه «اتحاد عمال ونقابات اليمن» «إعلان حرب على كل موظفي الدولة، وانقلاباً على الدستور والقانون اليمني الذي منح راتب الموظف قدسية، وجرّم مصادرته من أي طرف وتحت أي ظرف».
إقحام المصرف المركزي في الصراع السياسي، وإقالة محافظه السابق محمد عوض بن همام، عزّزا هواجس قطاع الأعمال والقطاع المصرفي، وضاعفا المخاوف من انهيار وشيك للاقتصاد. كذلك، أدى تعيين قيادة لا تمتلك الخبرة والكفاءة في إدارة البنك الأول في البلاد، في ظل أوضاع صعبة، إلى تدهور حاد في سعر صرف العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في السوق، بالتوازي مع تراجع القدرات الشرائية للمواطن جراء تداعيات الحرب والحصار، وتراجع مستوى دخل الأسرة اليمنية إلى 66%، ما تسبّب في انكماش حاد في الأسواق المحلية، وتراجع في الحركة التجارية.
هكذا إذاً فشلت حكومة هادي في إدارة البنك وفي إدارة السياسة المالية، وفقدت أدواتها النقدية كافة، واكتفت بطباعة كميات كبيرة من الأموال في روسيا من دون غطاء نقدي، إذ إن الأموال التي طُبعت في شركة «غورناك» الروسية، والمقدرة بـ2.4 مليار دولار، وصلت خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني/ يناير 2017 إلى شباط/ فبراير 2018، ومع ذلك أقرّت حكومة هادي أواخر العام الماضي طباعة قرابة تريليون ريال، بذريعة استبدال العملة التالفة في السوق، وفرض الشرعية المالية، علماً بأن قانون البنك المركزي رقم 14 لعام 2000 يحدّد فترة سحب العملة بعامين.

صراع خفي

وإلى جانب «النكاية» السياسية والفشل الإداري، ثمة سبب آخر وراء تدهور نشاط «المركزي» متصل بالصراع بين «الشرعية» والإمارات، إذ إن الإماراتيين سعوا، منذ وقت مبكر، إلى التحكم في «المركزي» وسياسته المالية أيضاً، وذلك من خلال تدريب كادر فني مكوّن من 25 فرداً في أبو ظبي منتصف نيسان/ أبريل 2016 لإدارة البنك. كذلك سهّلت السلطات الإماراتية عملية سحب نظام «السويفت» الخاص بالبنك المركزي في صنعاء من الشركة المستضيفة في دبي.
إلا أن تلك المساعي اصطدمت بواقع مغاير؛ فالبنك المنقول لا يمتلك أي بنى مؤسّسية ولا قدرات فنية. وعلى الرغم من أنه تم ترميم مبنى فرع البنك في عدن بـ50 مليون دولار، إلا أن خزنته الرئيسة لم تكن تستوعب إلا بضعة مليارات، كما أن قدراته الوظيفية والفنية ظلت من دون تغيير. يضاف إلى ذلك أن التحركات الإماراتية أثارت تحركات مضادة من قبل حكومة هادي، التي اتجهت إلى اعتماد بنوك أخرى لإيداع الأموال، كالبنك الأهلي في عدن (مطلع كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، استقبلت حكومة هادي عدداً من الشحنات المالية القادمة جواً من روسيا. أودعت بعضاً منها في بنك عدن، واعتمدت آلية «غامضة» لتوزيع ما تبقى عبر البنوك الأخرى). وفي المقابل، حالت الإمارات دون استعادة سلطات «الشرعية» الإيرادات العامة للدولة، وتوريدها إلى حسابها في البنك المركزي في عدن، كما منعت وصول الكثير من الشحنات المالية إلى عدن جواً خلال الفترة الواقعة بين آذار/ مارس وآب/ أغسطس من العام الماضي.
وفي ظل الحرب الباردة التي أعلنتها أبو ظبي على حكومة هادي، استغلت قوات موالية للإمارات حادثة السطو على فرع البنك الأهلي في مديرية المنصورة في عدن منتصف نيسان /أبريل 2017، لفرض سيطرتها الأمنية على «المركزي»، تحت مبرر حماية البنك من أي هجمات إرهابية. إلا أن تلك الخطوة أثارت استياء «الشرعية» ومحافظ البنك (حينذاك)، القعيطي، الذي اتهم، في بيان صادر عن مجلس إدارة البنك، ضمنياً، أبو ظبي، بإعاقة نشاط «المركزي». بيان ردّت عليه الإمارات باتهام حكومة الرئيس المستقيل بالتصرف بـ270 مليار ريال بعيداً من الرقابة أو الإجراءات القانونية في الصرف، قبل أن يتعرض مكتب وزارة المالية في مديرية خور مكسر، في الـ16 من آب/ أغسطس الماضي، لحريق مفتعل الْتَهم أرشيف الوزارة، وقضى على الملفات كافة، بعد ساعات من تهديد قوات «الحزام الأمني» باقتحام المكتب.