التحرّكات العسكرية السعودية والأميركية في اتّجاه محافظات اليمن الجنوبية والشرقية الغنية بالنفط والموانئ الاستراتيجية، ومحاولات الإمارات تكريس سيطرتها على جزيرتَي سقطرى وعبد الكوري في الخليج الهندي، وتعزيز نفوذها في جزيرة ميون الاستراتيجية المطلّة على مضيق باب المندب وخطوط الملاحة الدولية في الساحل الغربي، تعكس جميعها حماوة المفاوضات الثنائية المباشرة بين صنعاء والرياض، أو تلك التي تجري بواسطة عُمانية بين الطرفَين في مسقط.
ما رَشَحَ من معلومات حول مطالب حركة «أنصار الله»، وفي المقابل مماطلة السعودية ومعها فريقها اليمني في عدن، يشير إلى أن مفاوضات تمديد الهدنة عالقة عند رفض الرياض وحلفائها المطالب المُشار إليها، وخصوصاً تلك المتعلّقة بدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين. إلّا أن الجديد المُسجَّل في الكواليس، كشفت جزءاً منه مصادر عربية مُواكبة للمفاوضات، في حديثها إلى «الأخبار»، حيث قالت إن التواصل المباشر بين الحكومة السعودية وحكومة «الإنقاذ» لم ينقطع منذ لحظة الإعلان عن انتهاء الفترة الأخيرة من الهدنة في الثاني من تشرين الأوّل الفائت، من دون النجاح في الوصول إلى اتّفاق جديد لتمديدها. وكشفت المصادر عن لقاءات مباشرة عديدة جرت بين الطرفَين في صنعاء والرياض، آخرها قبل أيام قليلة، حيث زار وفد سياسي سعودي رفيع العاصمة اليمنية، والتقى بقيادات رفيعة في حكومة «الإنقاذ» وحركة «أنصار الله»، وتمّ البحث في ملفّ الهدنة وشروط تمديدها وسقف التسهيلات الذي يمكن للسعودية أن تَبلغه في سبيل الوصول إلى تمديد جديد، على أن يتمّ في مرحلة لاحقة البحث في مُدّته، وصولاً إلى شروط الحلّ النهائي ومتطلّباته.
وأكدت المصادر ذاتها أن الوفد السعودي «أظهَرَ مرونة لافتة في ملفّات عديدة، أبرزها ملف الرواتب»، إذ أبدى استعداداً لحلّ المسائل العالقة في هذا الشأن وتأمين التمويل اللازم لها، كما ولإزالة العقبات التي تعترض ملفّات أخرى مِن مِثل فتح الطرقات، وتنويع وُجهات الرحلات من مطار صنعاء وإليه. إلّا أن السعوديين عرضوا «تمويل الحلول» من خلال مبادرات تحت عنوان «مساعدة الأشقاء في اليمن»، لا تحت عناوين أخرى مِن قَبيل «دفْع تعويضات جرّاء العدوان»، أو تمويل الرواتب من عائدات النفط والغاز اليمنيَين، بما يَظهر وكأنه رضوخ لشروط «أنصار الله». كذلك، عرض السعوديون على مُضيفيهم اليمنيين أن يرسلوا وفداً رسمياً إلى الرياض برئاسة رئيس «المجلس السياسي الأعلى» في اليمن، مهدي المشاط، في سبيل المزيد من التشاور تمهيداً للوصول إلى خلاصات عملية من هذه المفاوضات. إلّا أن مطلباً سعودياً - قديماً جديداً - يتعلّق بالعلاقة بين «أنصار الله» وإيران، مرّره الوفد السعودي الزائر إلى صنعاء كتمنٍّ، يُمَكّن الرياض، في حال الاستجابة له، من تسويق «إنجاز كبير» يتعلّق بالنجاح في «انتزاع اليمن من الحضن الإيراني وإعادته إلى عمقه العربي»، ويبرّر «الثمن الكبير» الذي أبدى الوفد استعداد الرياض لدفعه.
أبدى الوفد السعودي استعداداً لحلّ الملفّات العالقة وتأمين التمويل اللازم لها
وفيما لم تكن ردود صنعاء على المقترحَين الأخيرَين خصوصاً، إيجابية، إلّا أن هذه التطورات تزامنت مع حديث المشاط عن وجود تفاهمات غير معلَنة مع أطراف إقليمية حول ثبات اتّفاق وقف إطلاق النار، وحديثه عن أن «صنعاء تمنح بعض دول العدوان فرصة لإعادة النظر في عدوانها بعد أن اقتنعت (تلك الدول) بأنها خاسرة»، فضلاً عن حديثه عن أن «مفاوضات الهدنة سبق لها أن وصلت إلى مستوى تفاهم جيّد، إلا أن المبعوث الأميركي، تيم لينيدركينغ، تعمّد إفشالها خلال جولته السابقة في المنطقة». كذلك، سُجّلت في صنعاء، في الأيام الأخيرة، مواقف كثيرة ضدّ التحرّكات الأميركية - البريطانية في الجزر اليمنية على الخصوص، متساوِقةً مع اتّهامات رسمية للولايات المتحدة بتعمّد عرقلة «عملية السلام»، ما يطرح سؤالاً ملحّاً حول التناقض بين ما هو ظاهر وما هو خفيّ في أداء الطرفَين السعودي والأميركي حيال اليمن، وما إذا كان التوتّر الذي يخيّم على علاقتهما حالياً، ربطاً بالخلاف الناتج من قرار «أوبك بلس» خفْض إنتاج النفط، انعكس تضارباً في المصالح والأهداف انطلاقاً من اليمن.
إلى الآن، يبدو أن رؤى الرياض وواشنطن تتقاطع عند إيجاد حلّ في اليمن، وإنْ كانت الأولى تُفضّل التوصّل إلى حلّ شامل للحرب، فيما تُؤثِر الثانية، في هذه المرحلة تحديداً، حلولاً مرحلية مِن مِثل تمديد مستمرّ للهدنة، بشكل يمكّنها من مواصلة استخدام الملفّ اليمني كـ«ورقة لعب» مثمرة، خصوصاً مع توتّر العلاقات بين الإدارة الأميركية ووليّ العهد السعودي، والذي كانت نتائج حرب اليمن أحد مسبّباته. وفي هذا الإطار، قال روبرت ساتلوف وديفيد شينكر، في تحليل موجز نشره موقع «معهد واشنطن للدراسات»، بعد زيارة قاما بها إلى السعودية، إنه «بغضّ النظر عن كيفية وصْف حرب اليمن، من الواضح أن السعودية ترغب في الانسحاب من النزاع اليوم (قبل الغد). ولكن من غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان الحوثيون وداعموهم الإيرانيون سيجارونها في هذا المسعى». وعليه، يبقى اليمن ساحة مهمّة لمواجهة طهران، من وُجهة نظر الرياض وواشنطن على السواء؛ إذ أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، الشهر الماضي، أن إدارة بايدن لن تغضّ الطرف عن التهديد الذي تشكّله إيران عند مراجعة علاقة الولايات المتحدة بالسعودية، قائلاً إن «هناك تحدّيات أمنية، بعضها ينبع من إيران. وبكلّ تأكيد، لن نغضّ الطرف عن التهديد الذي تشكّله إيران، ليس فقط بالنسبة إلى المنطقة، ولكن في مناطق أخرى أيضاً».
من الواضح، إذاً، أن الإدارة الأميركية تحيّد مشكلاتها مع ابن سلمان عن كلّ ما يخصّ صراعها مع إيران. إلّا أنه يبدو أن التحرّكات الأميركية الأخيرة، خصوصاً في حضرموت، تأتي في إطار مساعي واشنطن للإمساك بجميع المحافظات الشرقية الغنية بالنفط، ولو أدّى ذلك إلى إقصاء الوجود السعودي في هذه المحافظات، خصوصاً وأن الرياض تملك أجندتها الخاصة في اليمن، والتي قد تتقاطع أو تتعارض مع الأجندة الأميركية، فيما تَعتبر الولايات المتحدة أن الوجود الإماراتي في معظم منابع النفط ومصبّاته، ما عدا مأرب التي تتبع المحافظات الشمالية، هو ضمانة لها، بالنظر إلى أن أبو ظبي لا تمتلك أجندة مستقلّة عن تلك الأميركية، خصوصاً في ما يتعلّق بالوجود في المناطق الاستراتيجية كالموانئ والجزر اليمنية. وتُعتبر مدينة الريان، شرقي المكلا مركز محافظة حضرموت، بمينائها، ومطارها على وجه الخصوص، أشبه بقاعدة عسكرية إماراتية - أميركية ضخمة، تحتوي على أنظمة «باتريوت» للدفاع الجوي، إلى جانب شمولها غرف العمليات والتنسيق، وتشكيلها محطّاً لرحلات طائرات النقل العسكرية، وحاضنة للأنشطة المتعلّقة بتصدير نفط حضرموت وغازها.