يوسف ركين | في "أرض السواد" للروائي الراحل، عبد الرحمن منيف، ما يوحي برواية تاريخية وما يفيض عنها. تبدو تاريخية، وهي تقصد فترة محددة من تاريخ العراق، وتفيض عنها، إذ تمزج الواقع التاريخي بالمتحوّل الروائي، لتنحو بالواقع إلى متخيل جديد، والمتخيل إلى وجه من وجوه التاريخ وحواراً معه.تقرأ "أرض السواد" التاريخ في مصائر البشر المتنوعة، وتعلن أن التاريخ الحقيقي متعدد الدلالة، حتى وإن بدا مفرداً. هي أغنية حبّ طويلة ودافئة للعراق، لأهله أولاً، ولطبيعته القاسية، الحانية. حين يفيض دجلة فيغرق كلّ قائم. حين تتفتح الطبيعة عن ألوانها الساحرة المذهلة في الموصل (أم الربيعين). حين تتدفق ينابيع المياه صافية في جبال الشمال. حين يلتهب القيظ في البادية، ثم يهطل المطر، فيصفو الجو ويتعطر بروائح تحار كيف تتجمع وسط هذه الصحراء المترامية. إنه العراق شبيه أهله.
هي آخر ما كتبه عبد الرحمن منيف (1933 ـ 2004). ثلاثية جاءت على هيئة سفر كرنفالي للتنوع والتعدد البشري، الثقافي والاجتماعي والأخلاقي. هذا التنوع والتعدد في الشخوص يقتضي تنوعاً في الأساليب واللهجات والأصوات، لتقدّم جدارية بهيجة في تقميشها اللوني السوسيولوجي للكائن، من خلال الحضور المتكافئ للكل. الحدث هو العراق، وهي رواية للماضي والحاضر، تقرأ الزمنين في متخيّل فائض عنها.
على خلاف الجزء الأول الذي دارت شخوصه في فلك السراي، بعد وصول داوود باشا إلى حكم الولاية، يخرج عبد الرحمن منيف في الجزء الثاني إلى حواري بغداد وشوارعها. وبينما يلاحق القنصل البريطاني، ريتش، في بغداد، يأخذنا بدري، الشخصية المحورية في هذا الجزء، إلى كركوك لتكون مسرحاً جديداً للأحداث. فيما يكون الصراع ثيمة الجزء الثالث والأخير، قبل الفيضان السنوي لنهر دجلة، الذي سيختم هديره واحدةً من أعمال عبد الرحمن منيف الجميلة.

أرسلوا لنا مشاركاتكم على البريد الإلكتروني:
[email protected]