لو لم تكتب دنيا ميخائيل (1965) إلا ديوانها الثالث «الحرب تعمل بجد» (2001)، لكان ذلك كافياً لبقاء اسمها راسخاً في ذاكرة القارئ، بل إن القصيدة التي حمل الديوان اسمها كافية وحدها لفعل ذلك. المزاج الوجودي والإنساني الذي بدأ بخفر في باكورتها «مزامير الغياب» (1993)، تطوّر في ديوانها الثاني «على وشك الموسيقى» (1997)، قبل أن ينضج في ديوانها الأخير.منذ البداية، كتبت دنيا ميخائيل بلغة متخففة من ماضيها المجازي والجمالي. لغة ذاهبة بثقة نحو إنجاز المعنى الذي تتركز فيه شعرية القصيدة كلها. الدسامة المطلوبة موجودة في فكرة القصيدة الخالية من الإسراف البلاغي. أحياناً نحس أننا نقرأ قصيدة غير عربية، بسبب فصاحتها المكتومة، وغنائيتها المطوية داخل المعجم اليومي للحياة والواقع. لعل دراسة الشاعرة العراقية للأدب الإنكليزي في بغداد أسهمت في حكّ جملتها مع الشعر الأجنبي، وصنعت لديها ميلاً إلى لغة تتسم بسيولة سردية وقصصية... لكنها خاضعة لضبط أسلوبي خفي يؤمن التوازن بين تلقائية هذا السرد ومعانيه المستهدفة. ممارسة مماثلة لا بد من أنّها تعززت بانتقال الشاعرة للعيش في الولايات المتحدة، حيث أكملت دراستها الجامعية، وحظيت أعمالها المترجمة إلى الإنكليزية باهتمام لافت تُوِّج بجوائز عدّة، آخرها «جائزة الكتاب العربي الأميركي» عن كتابها «يوميات موجة خارج البحر».
صدور طبعة ثانية من «الحرب تعمل بجد» (الغاوون)، مذيّلاً بمختارات من ديوانيها السابقين، هو ذريعة استعادة هذه التجربة التي استُقبلت بحفاوة مُستحَقَّة في العالم العربي، وبحفاوة مماثلة عقب ترجمتها إلى الإنكليزية. كأنّ تجنّب الشاعرة للتزويق اللغوي، وموضوعاتها العابرة للحدود، وجدا بيئة لائقة لدى قارئ آخر. كأن المذاق الأجنبي في قصائدها عثر على أجانبه الافتراضيّين.
أول ما نلاحظه في تجربة ميخائيل أنّ تهويمات الذات الأنثوية وتذمّراتها المضجرة شبه غائبة، بينما تزداد كثافة المواضيع الإنسانية والمفارقات الحياتية العابرة للمشهديات المحلية والذاتية. حتى عندما تكتب في الحب، لا تقع في كليشيهاته وعاطفته المائعة. في إحدى قصائدها المبكرة، نقرأ: «هناك من يدق الباب/ يا لحزني/ إنها السنة الجديدة وليس أنت». المذاق البسيط لهذه الصورة يتعزز بحكمةٍ فاخرة وسخرية عالية الجودة في قصيدة أحدث: «أجل كتبتُ في رسالتي/ بأني سأنتظرك إلى الأبد/ أنا لم أقصد «إلى الأبد» تماماً/ إنما وضعتها من أجل الإيقاع». الشاعرة موجودة في الحب وخارجه، لكنها تفضّل أن ترى نفسها ذائبة في حركة إنسانية شاملة، حيث تتداخل التأملات الفردية مع تأملات الجموع، وتصبح القصيدة محاولة لالتقاط الخلاصات الفلسفية للعيش البشري: «أشكر كل الذين لا أحبهم/ إنهم لا يسببون ألماً في قلبي/ لا يجعلونني أكتب رسائل طويلة/ لا يزعجونني في أحلامي/ لا أنتظرهم بقلق/ لا أقرأ أبراجهم في المجلات/ لا أستعمل أرقام أرقام هواتفهم/ لا أفكر فيهم فيهم/ اشكرهم جداً/ إنهم لا يقلبون حياتي رأساً على عقب». هناك فكرة أو خلاصة أو مفارقة في نهاية كل قصيدة تقريباً (راجع الكادر).
خلفية العراق المدمر بالطغيان والحصارات والحروب تتحول هنا إلى مادة تجريدية صالحة لأي حرب. إنها «النبرة الوجودية لما بعد الحرب» بحسب تعبير الناقد لورنس ليبرمان في مراجعته للديوان في مجلة American Poetry Review. نبرة تسري على موضوعاتٍ مواربة عن الحرب أيضاً، كما هي الحال في قصيدة «بابا نويل»، الذي تستغرب الطفلة العراقية مظهره الودود، وتقول له: «ولكن بابا نويل الذي أعرف/ يرتدي بدلة عسكرية/ ويوزع علينا كل عام/ سيوفاً حمراً/ ودمىً للأيتام/ وأطرافاً اصطناعية/ وصوراً للغائبين/ نعلقها على الجدران».
ولعل قصيدة «أميركا» تعزز الاحتياطي الكوني في نبرة الشاعرة، وتذكّرنا بشعراء كبار كتبوا في السياق ذاته. بنبرة إنشادية خافتة ومنكسرة، تمزج حلمها بالهجرة إلى أميركا مع أحلام الملايين الذين هاجروا أو أخفقوا في الوصول: «لا تسأليني رجاءً أميركا/ لا أذكر/ في أي شارع/ أو مع من/ أو تحت أية نجمة/ لا تسأليني/ لا أذكر لون الناس/ ولا تواقيعهم/ (..)/(..)/ وأنا كبرت/ صرت أكبر من أبي/ كان يقول لي في الأمسيات التي بلا قطار/ سنذهب يوماً إلى أميركا/ ونغني أغنية/ مترجمة أو غير مترجمة/ عند تمثال الحرية». القصيدة الطويلة المكتوبة بحناجر غفيرة تصفو في قصيدة أخرى، وتصبح على قياس الشاعرة التي تواظب على إدهاشنا بمفارقة جديدة: «من أجل بعض المشاهد الطبيعية/ هاجرت إلى هذه المدينة/ وها إنني شيئاً فشيئاً/ بدأت أقترب من أشجارها البلاستيكية/ والمشاهد تطويني/ مثلما يفعل كتابٌ مصوّر عن الزهور/ بفراشةٍ
مبهورة».



المفارقة أسلوباً

بالنسبة إلى دنيا ميخائيل، فإنّ «المفارقة هي إحدى أهم علامات أسلوبي في الكتابة، وأحد أسرار تحقق اللذة فيها» كما قالت مرةً. قصيدتها الذائعة الصيت «الحرب تعمل بجد» لا تكتمل إلا مع اكتمال المفارقة في خاتمتها. الحرب التي «منذ الصباح الباكر/ توقظ صفارات الإنذار/ تبعث سيارات الإسعاف/ إلى مختلف الأمكنة/ تؤرجح جثثاً في الهواء/ تزحلقُ نقالاتٍ إلى الجرحى»، والتي: «تلهمُ طغاةً لإلقاء خطب طويلة/ تمنح الجنرالات أوسمةً/ والشعراء موضوعاً للكتابة/ تساهم في صناعة الأطراف الاصطناعية»، لن تنغلق دائرة معناها المباغت إلا بالقول: «إنها تعمل بجدٍّ لا مثيل له/ ومع هذا لا أحد يمتدحها بكلمة».