المفاجآت دائماً ممكنة مع الإدارة الفرنسيّة المشغولة، بشغف نادر، في السهر على مصالح شعوب المنطقة، من دمشق إلى باماكو. ألم يطمئننا الرئيس فرنسوا هولاند أمس في خطابه إلى أعضاء السلك الدبلوماسي بمناسبة العام الجديد، إلى أن الديموقراطيّة التي يساعد، هو وحكومته، على بنائها بقوّة في «سوريا ما بعد الأسد» ـــ كما فعل سلفه ساركوزي في ليبيا على الأرجح ـــ ستقوم على «التعدديّة التي تصنع وحدة الشعب السوري»؟
المفاجآت دائماً ممكنة مع الإدارة الفرنسيّة، لكن، إذا وقّع وزير الداخليّة الفرنسية مانويل فالس، كما هو متوقّع، قرار إبعاد جورج إبراهيم عبد الله قبل صباح الاثنين، موعد انعقاد جلسة المحكمة المكلّفة تنفيذ قرار إطلاق سراحه المشروط، فسيكون المناضل اللبناني الناجي من «ألكاتراز» العدالة الفرنسيّة، في طريقه إلى بيروت. والسؤال المطروح هو كيف سيصل جورج عبد الله إلى لبنان، في اليوم نفسه غالباً؟ أو بالأحرى كيف سيستقبله بلده بعد ثلاثة عقود من الغياب القسري؟
قد تبدو المسألة لبعضهم عرَضيّة أو ثانويّة، أو من دون أهميّة. وربّ مجيب: «ما هذا السؤال؟ ليستقبله أهله وأصدقاؤه ورفاقه والمتضامنون معه أمام كاميرات «الميادين». ليطلقوا بعض الشعارات والمفرقعات، ويرفعوا بعض الأعلام، ليصفّقوا ويهتفوا وينفعلوا قليلاً، وقد تدمع بعض الأعين الحسّاسة، قبل أن تفرنقع الجموع، ويعود كلّ إلى بيته. هيصة صغيرة يعني، ثم تنتهي الحفلة». وقد يضيف مناضل تائب، انقلب إلى الليبراليّة النفطيّة، بأسى أو بسخرية: «كل ذلك من مخلّفات زمن منقرض». وربّما كرّست Mtv خبراً صغيراً في آخر نشرتها عن «عودة الإرهابي» (ما حيلتنا؟ جورج عبد الله ليس لارا فابيان)... كلا أيّها السادة. إن عودة المقاتل الأممي ضدّ الصهيونيّة إلى بلده، كما عوليس في الأسطورة القديمة، ينبغي أن تكون حدثاً وطنيّاً بكل معنى الكلمة. هناك لحظات تاريخيّة، علينا أن نحسن قراءتها، وأن نستمد من رمزيّتها زخماً لمواصلة الطريق في وحول الراهن ورماله المتحرّكة. ليس الرجل «مغترباً» عاديّاً يعود إلى وطنه بعد غياب. ليس «مجرماً» خطيراً يخجل من مصافحته أصحاب الياقات البيضاء، رغم سنوات السجن الطويلة، ونصفها تعسّفي على الأقلّ، باعتراف مسؤولين سياسيين وأمنيين كبار في فرنسا نفسها. جورج ابراهيم عبد الله سليل بطلَي المقاومة الفرنسيّة ميساك مانوشيان وجان مولان. إنّه صاحب قضيّة (حتى إيف بونّيه رئيس الاستخبارات الفرنسيّة أوّل الثمانينيات فهم ذلك)، وعنوان مرحلة وجيل، وابن تجربة وفكر يمتلكان شرعيّة تاريخيّة في ديار العرب. وعلى الدولة اللبنانيّة أن تنحني أمام تضحياته، وتستقبله كما يليق بالأبطال، وترفعه إلى منزلة القدوة...
ليس هذا الثائر بضاعة رائجة، ولا يمكن لأيّ سياسي أن يستثمر مصافحته لمصالح انتخابيّة، أو مزايدات مذهبيّة. لهذا السبب أيضاً تليق به الحفاوة، ويستحق أن يكتشفه ـــ ويتأثّر به ـــ أبناء الجيل الجديد، الذين هربوا من السياسة لكي لا يروا بعد الآن صورة المهرّج الملتحي، أو الدونجوان السعيد الذي يتاجر بالموت ويسمسر للخراب. لن يكون هناك أمير طائفة في استقبال جورج عبد الله، ولا شيخ طريقة أو زعيم عشيرة، ولا ممثّل جناح عسكري أو مدني لأيّة عائلة، من مكوّنات البنية السياسيّة المترهّلة، الإقطاعيّة والقروسطيّة، التي تتحكّم في كرامتنا وحرّيتنا ورخائنا وحقّنا في العيش الكريم، لكن الدولة، هي، رغم كونها مقترنة بذلك الواقع البائس، يجب أن تكون هنا. الاستقبال الرسمي الحافل، لن يكون فقط اعترافاً ببطولة ابن القبيّات، وإدانة متأخّرة للظلم الذي لحق به، بل أيضاً تكريساً للقيم الوطنيّة والأخلاقيّة والتنويريّة التي يمثّلها، الآن وهنا، وسط الظلام العربي الدامس الذي يحدث لنزيل قصر الإليزيه أن ينظر إليه بعين الرائي، فيبصر «نهضة مقبلة». نطالب الدولة اللبنانيّة بأن تكون هنا، عند سلّم الطائرة مساء الاثنين، تأكيداً على قداسة القضيّة التي دفع جورج غالياً في سبيلها، مثل الكثير من المناضلين والفدائيين والمقاومين. ولأنّه فعل عن قناعة لا عن مصلحة، عن التزام فكري وسياسي لا عن نزعة غيبيّة أو تهوّر وعصبيّة عمياء. إننا أحوج ما نكون اليوم إلى أمثاله، في زمن الردّات والفتن، واختلاط القيم وضياع المعايير... لحظة احتدام المواجهة المصيريّة مع العدوّ نفسه الذي قاتله قبل ثلاثين سنة.