اجتمع بعض موظّفي وزارة الزراعة حول النائب الذي وصل إلى مبنى وزارتهم. نقلوا إليه أجواء تظاهرات هيئة التنسيق النيابيّة، فما كان منه إلّا أن أعرب عن دعمه الكامل لهم، حتى أنّه أسرّ لهم بـ«ردّية». قال ردّدوا في المظاهرة: «يا تجّار ويا فجّار، إنتو الحوت ونحن زغار». الردّية لم تعجب تماماً الموظفين بسبب تفصيل قد يبدو صغيراً إلّا أنّه في غاية الأهميّة بالنسبة إليهم. فعمدوا إلى تغيير كلمة «زغار» في نهاية الردّية إلى «كتار». يمكن أن يخطر في بال سعادة النائب ردّيات من أجل مطالب الموظّفين، إلّا أنّه لا يمكن أن يتمتع بحساسيّتهم. في اللحظة ذاتها اقتربت منه المهندسة الزراعية، وإحدى أشهر الهتّافات في تظاهرات هيئة التنسيق مي مزهر، وأجابته برديّة عن كون النوّاب «حراميّة»، ثم أخبره الموظّفون الآخرون بوجوب استعمال رديّته وصوته حيث ينفع، في مجلس النوّاب. فغادرهم النائب منزعجاً. فالهتافات في الشارع لها أصحابها، وهي الوسيلة للتعبير عن وجعهم، ولا يمكن لأيّ كان أن يركب الموجة. رغم ذلك، صرخت حناجر «الهتّافين» أمس، بالردّية المعدّلة، إضافة إلى هتافات كثيرة غيرها، ردّدها من بعدهم المتظاهرون. فمن هم أولئك الذي يملون الهتافات على المتظاهرين، وكيف يصوغون ردّياتهم؟
ربما هي المرّة الأولى التي لا تثير فيها عبارة «الجناح العسكري لهيئة التنسيق» الرعب والقلق في نفوسنا. فالمقصود بالعبارة هذه المرّة هم موظّفو أو «مناضلو» وزارة الزراعة الذين نشطوا في تأليف الردّيات التي يرفعون صوتهم بها في مظاهرات هيئة التنسيق، حتى اكتسبوا هذا اللقب، بل وحتى سافرت ردّياتهم إلى المناطق مع مندوبي الهيئة. بعض هذه الردّيات استوحاها الموظّفون من هجوم الحكومة عليهم، فاستهدفوا في بعضها جمل توجّهت الحكومة إليهم بها، وفي بعضها الآخر شخصيات يعتبرون أنّها تلعب الدور الأكبر في عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب، فكان لرئيس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس الهيئات الاقتصاديّة عدنان القصّار الحظ الأوفر من الهتافات الغاضبة، إضافة إلى بعض الشخصيات التي يعتبرها المتظاهرون «مستفزّة» كوزير الاقتصاد نقولا نحّاس. وفي بعض الأحيان، يتحوّل ما يهتف به الزعماء، بعد إضفاء التعديلات عليه، إلى هتاف للشعب. فاستعار المتظاهرون، أمس مثلاً «ثأر» رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وهتفوا: «بدنا التار بدنا التار، من الهيئات من التجار»، كما استعاروا من جمل الرؤساء العرب الشهيرة، فهتفوا: «زنغا زنغا دار دار، لا حقينك يا قصّار» أو «يا نجيب، الـLiar يروح الـfire»، وأكمل الهتّافون جولتهم حتى وصلوا إلى حزب الله واستعاروا منه «عمنشكي من القلة، يا تعتيري ويا دلي، ومهما قلتوا وعملتو، هيهات منا الذلة».
إذاً بلغتهم ولغة الزعماء حدّد الهتّافون اللغة التي هتف بها الشارع.
إذاً بلغتهم ولغة الزعماء حدّد الهتّافون اللغة التي هتف بها الشارع. يقول المسؤول الإعلامي في نقابة معلمي المدارس الخاصة، والهتّاف أنطوان مدوّر أنّ الهتّاف يبرز من بين المتظاهرين بسبب شخصيّته القياديّة. فيكون أول في يحمل مكبّر الصوت ويقود الجماعة من خلفه. ويضيف أنّه يجب أن يتمتّع الهتّاف بسرعة بديهة تجعله قادراً على اختلاق هتافات عندما تقتضي الحاجة، مثلاً عندما تمرّ أفواج الناس أمام وزارة أو «مركز حسّاس». فابتكر الهتّافون، أمس، أمام وزارة الثقافة «يا وزارة الثقافة، الموظّف عايش حافي». وبينما يقول مدوّر أنّه اعتاد لعب دور الهتّاف في المظاهرات، من السياسية منها إلى مظاهرات هيئة التنسيق اليوم، فإنّ مي مزهر تقول إنّ «ظلم الحكومة جعلها تلعب هذا الدور». فهي لم تكن هتّافة من قبل ولا تعرف إن كانت تمتلك شخصيّة قياديّة أم لا، لكنها تكتفي بالقول إنّها تكره الظلم. «هذا الظلم الذي جعلنا نظهر عن مواهب كثيرة في المظاهرات، فجميعنا اليوم من خجولين وقياديين نتداور على الهتاف. حتى أنّه في مظاهرة أمس، اختفت أصواتنا من كثرة ما هتفنا، فساندنا طلّاب المدارس وهتفوا بما كتبنا. إذ إنّ الجو السائد أصبح جوّ حرية وهناك غياب كامل للخوف من نفوسنا». لدى مرورهم أمس في شارع البسطة، احتفل الناس على شرفاتهم بالمتظاهرين برمي الأرز عليهم. شعرت مزهر بأنّ هذا الأرز لها، أنّها حققت شيئاً بصوتها فقط، كسرت القيود. «الآن نحن أحرار وصوتنا عالٍ. فأول تعبير عن الرفض هو الهتاف، أمّا ما يكون آخره فلا نعرف بعد».