وسط المناخات السوداويّة القاتمة التي تلفّ المنطقة، فجع أهل الثقافة في بيروت، مساء أمس، برحيل المخرج الفذّ يعقوب الشدراوي الذي كتب صفحات مشرقة في تاريخ المسرح العربي الحديث. «فقدت معلّمي» علّق أحمد قعبور لدى تبلّغه النبأ، «لا أريد أن أصدّق» أضاف فائق حميصي، من جملة ردود فعل كثيرة رصدها أحد طلابه السابقين على فايسبوك… لدى عودته من الاتحاد السوفياتي كما كانت تعرف آنذاك، بدأ الشدراوي بشعراء الحداثة وغوغول، وبرز ممثلاً أيضاً.
من أدواره ترجّع ذاكرتنا الطفوليّة دوره في شخصيّة المفتّش جافير القاسي القلب، بوجه جان فلجان/ أنطوان كرباج، في مسلسل «البؤساء» عن رائعة فيكتور هوغو (إخراج باسم نصر). لكنّه سيختار الجلوس في الجهة المواجهة للخشبة، ليقوم بدوره كمخرج العرض ومبدعه ومدير الممثلين على الطريقة السوفياتيّة القديمة…
رجل وحده جزء أساسي من تاريخ المسرح اللبناني. المخرج المعروف بمواقفه التنويريّة والتقدّميّة، وابتكاراته المشهديّة، لفت الأنظار ونال التكريس مبكّراً مع «مهرّج» الماغوط. كانت له مقاربته الخاصة للفرجة، في مكان مركّب بين ستانيسلافسكي والواقعيّة الاشتراكيّة والكوميديا ديلارتي والاحتفاليّة العربيّة ـــ الاسلاميّة. وبريخت لم يكن بعيداً في يوم من الأيّام، علماً أننا لا نستطيع تصنيفه فنّاناً بريختيّاً كما المعلّم جلال خوري، أو ما بعد بريختي مثل روجيه عسّاف.
درس الشدراوي في معهد «غيتيس» للفنون المسرحية في موسكو، وعاد مطلع السبعينيّات ليفتح الخشبة على عالم الأدب، والعكس بالعكس. خلال مسيرته الطويلة لم يتردّد في مقاربة أكبر الأدباء. في «أعرب ما يلي» (١٩٧٠) جمع نصوصاً لكل من جورج شحادة وأنسي الحاج ومحمود درويش وأدونيس. في اليوم التالي للعرض الافتتاحي كتب فارس يواكيم: «اليوم وُلدَ المسرح اللبناني». لكن التكريس الحقيقي سينتظر سنوات عدّة. كان الفنّان الزغرتاوي الذي اختار الفن رغماً عن والده، قد ذهل الجميع بادائه الداخلي لغوغول في «مذكرات مجنون» (ممثلاً ومخرجاً)، و«رأس المملوك جابر» لسعد الله ونّوس، قبل أن يرسو على شواطئ محمد الماغوط فيقدّم «المهرّج» التي اعتبرت مفترق طرق في مسار المسرح اللبناني. وستكرّ السبحة على مرّ ثلاثة عقود ونيّف: من «أبو علي الأسمراني» و«المارسييز العربي» حتّى «يا اسكندريّة بحرك عجايب» و«بلا لعب يا ولاد»، ومن إدوار أمين البستاني (سمكة السلور) في البدايات، ومارون عبّود (الأمير الأحمر) وميخائيل نعيمة (سبعون) وجبران (جبران والقاعدة)، وصولاً إلى الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ويوسف إدريس (الطرطور، بطولة أحمد الزين ونقولا دانيال).
في السبعينيّات المباركة، عشيّة الحرب، سيساهم، إلى جانب روجيه عسّاف وريمون جبارة ونضال الأشقر وجلال خوري وبيرج فازليان وشكيب خوري وعصام محفوظ وميشال نبعة ومادونا غازي ورضا خوري وآخرين، في صنع العصر الذهبي للمسرح اللبناني الذي شرّع أبوابه أنطوان ملتقى ومنير أبو دبس. ثم واصل تجربته بأشكال مختلفة في أتون تلك الحرب الأهليّة، باحثاً عن أفق، عن سبل نجاة جماعيّة من خلال المسرح. قبل أن ينزوي ويدخل شرنقته، في مدينة لم تعد تتسع للفكر والابداع والثقافة. لم يكن المرض وحده وراء ابتعاده عن دائرة الضوء، بل هو هذا اليأس من استئناف المشروع النهضوي الحداثوي والطليعي الذي آمن به هو ورفاق دربه في السبعينيّات… ومن أجله اعتنق مهنة المسرح.

في الكلمة التي ألقاها أمام أقرانه، باسم «الهيئة العربية للمسرح» خلال مؤتمرها في الشارقة العام ٢٠٠٩، دعا الشدراوي إلى الغضب بوجه كل ما يجرّد الانسان من انسانيّته. وقال: «في عصر العولمة والانترنت، وتعميم الثقافة المعلبة وخراب المدينة بمعناها الانساني الحميم، المطلوب بداية العمل على اعادة تشكيل حياة البشر الروحية سعياً إلى حضارة تليق بشعب كامل لكي يبني ثقافة قادرة على الغاء التعفن والترهل». برنامج حقيقي ما زلنا عن عتبته. فكيف يمكن للشدراوي وأمثاله أن يواصلوا مشروعهم وابداعهم في زمن موت الروح، واستلاب الوعي؟
بأناة وأناقة وهدوء، حارب المرض العضال سنوات قبل أن يستسلم. مسيرة غنيّة وخاصة تختصر تاريخنا الثقافي والفكري المعاصر، تطوى برحيل هذا المخرج الفريد والممثّل المدهش الذي سيحوم طيفه طويلاً في شارع الحمراء، وفي كواليس المسارح العربيّة المنسيّة والمستباحة. كان يعقوب يعتبر أن «المسرح هو سيرك الحياة ندخله ثم نغادره. لكن السيرك مستمر في الواقع وعلى الخشبة، يخضع لتحوّلات تتلاءم مع العصر وتقلباته». لعلّه تعب من مشاهد الانحطاط المكرّرة في عالم لم يعد عالمه. فقرر أن ينسحب من السيرك، على رأس قدميه، بأناقته المعهودة، كما فعل دائماً

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@