فيما كنت أقلّب الشاشات التلفزيونية صباح السبت، إستوقفتني نبرة الصحافية والباحثة الطرابلسية نهلة الشهال في حوارها مع بسام أبو زيد على شاشة LBC. بالرغم من وجهها المبتسم، كانت تنهره كلما لجأ إلى ترداد العبارات الطنانة، والحشو الصحافي. لا مجال لتضييع الوقت وتعبئة الهواء التلفزيوني بكلمات وعبارات وتحليلات يعرفها الجميع، ويرددونها دائماً.
بالرغم من أنني إستهديت إلى الحوار خلال دقائقه الأخيرة، لكنه كان واضحاً أن الشهال أتت لتعلن حالة الطوارئ، مستعرضة بحسب رأيها ما نحن بحاجة إليه اليوم في لبنان لكي نتفادى مصيبة أكبر من التي نعيشها. تحدثت بإصرار عن حاجتنا للتوافق كلبنانيين في ما بيننا، ولم تقصد مجرد طاولة حوار جديدة، بل توافقاً عاماً بين جميع اللبنانيين على أننا نعيش على فوهة بركان، والتوجه حالاً إلى إيجاد حلول، وحاجتنا إلى طروحات ذكية وإلى أفعال وخطابيات بعيدة عن الشحن السلبي والعنصري. لكن عبارة واحدة إستوقفتني بشدة خلال حديثها حين قالت ”إننا بحاجة إلى الخيال“. نعم ما نفتقده اليوم في ذلك الزمن المرير في العالم العربي هو الخيال. جميعنا بارعون في التحليلات السياسية والعسكرية والإستراتجية، التي عبرها بررنا لأنفسنا وقوفنا مع هذا أو ذاك، وتبنيّنا مشروعاً هنا وخطاباً هناك. وخلال السنوات الأخيرة شهدنا نحن اللبنانيين ثورات وسقوط أنظمة وقيام غيرها، ومجازر وقتلاً وتفجيرات، وكنا نحللها ونناقشها ونرفع الصوت ونتصادم ضمن فقاعاتنا الحقيقية أو الإفتراضية، متعامين عن واقعنا المأساوي. إلى أن حدث ما حدث في سوريا، وتدخل من تدخل من اللبنانيين هنا وهنالك، وتوافد اللاجئيين السوريين بكثرة إلى لبنان بحيث صار من المستحيل على أي لبناني أن يدعي أنه بمأنى عما يحدث في العالم العربي. وأتت تفجيرات الرويس وطرابلس لتلغي أي إحتمال بالحيادية التي تعتبر من أهم هوايات اللبنانيين بعد الشوبينغ والتنظير السياسي. نعم إنّ العالم العربي يمرّ في مخاض رهيب، ونعم إنه زمن صعود ونزول الإسلام السياسي والتكفيريين وغيرهم، ونعم إن الشعوب العربية التي ركدت لزمن طويل تتحرك، ونعم إن المسألة مسألة خريطة جديدة للشرق الأوسط الجديد، ولخريطة الغاز الجديدة، ولعبة نفوذ الدول الكبرى في المنطقة، وإسرائيل. ولكنها أولاً وأخيراً السنوات الأكثر دمويةً وقتلاً وبشاعةً وحقداً عرفها العالم العربي. إننا نعيش في حضيض الإنسانية، وجميعنا مسؤول عن إنحدارنا إلى ذلك الدرك من الإنحطاط. ما عدنا نستطيع عدّ أرقام الموتى، ولا معرفة أساميهم، ولا حتى جدران المدن عادت تتسع إلى أوراق النعوى. أصبح الموت خفيفاً كخفة إنسانيتنا المعدومة. فما العمل؟ لا لن أضيء شمعة في إحدى ساحات الدول العربية ولن أوشح صورتي بالأسود على مواقع التواصل الإجتماعي، ولن أتظاهر وأعتصم وأندد وأستنكر وأشجب، لأن جميع تلك الأفعال إنما هي أفعال سلبية تنتج كردة فعل على أفعال ولغة لا أفهمها ولا أجيد مفرداتها والأهم لم أخترها. إنما عليّ أن أفعل. نعم ينقصنا الخيال لأننا لا نفعل بل نتلقى ولا نقدم سوى ردة فعل. كفى إحتفالاً بالموت، وكفى إنحداراً بالإنسانية. وليست تلك الصرخة مناداةً إلى حيادية جديدة وإنفصالاً عن الواقع، بل إلى الفعل. أين هم المثقفون العرب اليوم؟ لا بل وبالتحديد أين هم المثقفون الشباب اللبنانيون اليوم؟ لماذا نتفرج على ما يحدث ونحن صامتون؟ لماذا نسمح لخطاباتهم وأفعالهم العفنة بأن ترسم حاضرنا ومستقبلنا؟ لماذا رضينا بأن نكون سلبيين ومهمشين؟ أليس لدينا تصور وطرح وخطاب أفضل لحياتنا؟ أي دور يلعبه اليوم المثقف الشاب اللبناني، من فنانين ومفكرين وأدباء وناشطين، في وجه خطاب الموت والحقد المسيطر علينا؟ ألسنا نحن المسؤولين عن صنع خطاب اليوم الذي يمثلنا؟ فلنحتل الميديا ولنفرض خطابنا. أين هم فرانز فانون وجان بول سارتر وألبير كامو وإدوارد سعيد اليوم؟ على المثقف اللبناني اليوم مسؤوليةً ودوراً كبيراً لا يمكن أن يتهرب منه، ولن يرحمه التاريخ في ما بعد. إننا جميعاً على يقين بأن لبنان يلاعب الحرب والموت، وبأنه إن لم يشتعل عن بكرة أبيه بعد لأنّ الوقت العالمي لم يحن ولكنه لم يعد بعيداً. الحرب قادمة والموت قادم، فماذا ننتظر؟ أم أننا نهوى كتابة القصائد التي ترثي شهداء المجازر؟ الحل ليس في يد السياسيين خاصة في بلد مثل لبنان يعتاش سياسيّوه على شحن وتجويع وموت شعبه. بل نحن المسؤولون عن مصير البلد. وهم لا ينقصهم الخيال، بل لطالما أبرعوا في تحويل جرائمهم إلى مشاريع سياسية. إنما نحن من ينقصنا الخيال، ومن لم يستطع حتى اليوم إيجاد خطاب وطرح وفعل مقنع يطغو على مشاريعهم القائمة على حقد الآخر. ولكن إلى أن يتطور طرحنا الخاص، فلنغزو اليوم خطاباتهم بأفكارنا المتعددة والمتناقضة حتى، التي قد لا تنجح في التغلب عليهم، ولكن على الأقل فلنشوش عليهم. لنكتب مقالات ونرسلها إلى الصحف اللبنانية، ونقحم أنفسنا في برامجهم التلفزيونية، لكي نكرس مساحة لنا ولصوتنا. ولما لا ننشئ إصداراتنا وصحفنا وراديوهاتنا وقنواتنا إسوة بالمثقفين الذين سبقونا في سائر الحروب السابقة. إنه أصبح من الضروري أن نخلق تلك الخاصة في حياة ذلك البلد، قبل أن نجد أنفسنا إما خارجه أم أمواتاً.