مفارقة كبرى يعيشها كل متعاط لبناني في الشأن العام، حين يلتقي دبلوماسياً غربياً هذه الأيام. نوع من حوار الطرشان يقوم فوراً بين الاثنين. شيء من سوء الفهم، أو عدم الفهم. حتى أن انطباعاً يتكون لدى كل من الطرفين، بأن الآخر «يتشاطر» عليّ، يناور، يدور بخبث ونفاق حول ما يفكر ويريد ويقدر، وحول ما سيفعل...
اللبناني من جهته، وريث شرعي عريق ومستحق، لمفهوم «دولة القناصل». في وجدانه وذهنه وثقافته وذاكرته وإدراكه، أن بلده، هذا الوطن العمره ستة آلاف سنة حضارة في كتاب التاريخ المدرسي وببغائياتنا، هو نفسه صنيعة قناصل العام 1861. هو هو لم يتغير ولم يتبدل. هكذا ينطلق اللبناني في حواره مع الدبلوماسي الغربي، من أن «سعادته» الحاضر أمامه، قادر على اجتراح المعجزات في بلد الأرز. وبكبسة زر. هو، من خلف موكبه المدجج، ومن خلف زجاجه الأسود وأسوار ممثليته، ومن خلف جهله للغة العربية ولنظام البلد وتاريخه وناسه وأعرافه... من خلف كل ذلك، هو قادر على إنهاء الفساد وحل الأزمة السورية وإعادة النازحين إلى أرضهم وإنهاء الصراع الاسرائيلي الفلسطيني وضمان حق العودة لكل لاجئ، واستنهاض الاقتصاد الوطني واستخراج الغاز ودفن الأحقاد... وحتى معالجة نفايات سوكلين ومطامر ما لم تنفه، فضلاً عن منافي السياسيين ومساكينها وما لم يطمر من حروبنا الذاتية العظيمة... يتوقع اللبناني من أي دبلوماسي غربي أن يحقق كل ذلك بشحطة قلم، بكتابة تقرير لم يصدر في ويكيليكس بعد. بطرفة عين لدولتين في الجوار أو زعيمين على طاولة الحوار. كل ذلك مقيم في قعر رأسنا. لا يغير فيه شيئاً زوغان عيني الدبلوماسي، فيما نحن نعرض عليه مطالبنا، ولا يخفف من آنيته وأولويته تدلي شفتي «سعادته»، دلالة على عدم فهم حرف مما نقول.
وإذا ما أخطأ الدبلوماسي الغربي وارتكب انتهاكه الأكبر لمعاهدة فيينا الخاصة بمفهوم اللبناني لعمل الدبلوماسيين البيض في وطن سعيد عقل، بحيث تمتم عبارة من نوع «هذه أمور أنتم مسؤولون عنها»، عندها يقفز إلى قشرتنا الدماغية الرمادية، فصل «نظرية المؤامرة». نحكم على المسكين المنتقل لتوه من مغمور جائع في عاصمة بلاده، إلى نجم «بوب» حقيقي مضطر للعلف حتى التخمة بخمس دعوات على الغداء يومياً ومثلها للعشاء في بيروت... نحكم عليه فوراً بأنه من أركان «مؤامرة» إدارته علينا. وأنه على الأرجح ضابط مخابرات متستر بلباس دبلوماسي. له تاريخ عريق في تركيب الانقلابات من خلال الجولات السياحية في البلدان التي اعتمد فيها. وهو الآن يتذرع بعجزه وعجز إدارته وعدم تدخلهما بشؤوننا اللبنانية، من أجل أن يتحكما بسياستنا ويسيطرا على بلادنا وينهبا ثرواتنا ويكتبا، بدمنا ومائنا ونفطنا، مصيرنا وتاريخنا، ببراءة الجنتلمان دراكولا...
في المقابل يعيش الدبلوماسي الغربي وهو يحاور لبنانياً معنياً بالشأن العام، حالة بلبلة شبه مطلقة. يشد عينيه وأذنيه وعنقه وكل مفاصل جسده، ليحاول التقاط كل حرف من قاموس طلاسم سياستنا. تسبقه الكلمات والعبارات وهو يحاول فهم بديهيات فكرة سابقة. نحاضر أمامه عن ديمقراطيتنا الفذة. يكوّر حدقتاه، يكون قد سرح في ذهنه متسائلاً: كيف نكون ديمقراطيين وما من حزب واحد عندنا أجرى يوماً انتخابات داخلية أو كتب مسودة برنامج لذاته، أو أمّن تجديد نخبه من دون ثورة أو انتفاضة أو «حركة تصحيحية» بالحد الأدنى؟ وفيما يعجز في ذهنه عن إيجاد جواب، تكون معضلاتنا الفكرية قد تراكمت على مسامعه: علمانيون؟ لكننا نتنفس الأصوليات مثل تفاحتي أراكيلنا. تعايشيون؟ لكننا صوّتنا بأقدامنا وأحقادنا منذ عقود، على رصف غيتواتنا في وطن الآرز، ورفع جدرانها الفاصلة من السماء، أصل حروبنا، حتى أرضنا المتحولة شاشة «إيكس بوكس» ثلاثية الأبعاد، لأطفال آلهتنا المتحاربين. متسامحون؟ لكن عنصريتنا الجينية باتت نموذجاً يدرس من سيريلنكا إلى... بيصور. عصريون حداثويون؟ لكننا مستعدون لقتل نصف قرن آت، من أجل صراعنا الفلسفي حول ما إذا كان الشهابيون قد تنصروا قبل قرنين أم لا يزالون على السنة الحنيفة. مستقبليون؟ حتى أننا نسمي فكر القرون الوسطى باسم المستقبل نفسه...
يبدو الدبلوماسي الغربي تائهاً في محاورتك. ممزق الأذنين والعقل بين سماعك، وبين تفكره في تصنيفك له: هل يعتبرني الآن «صليبياً» أم «إمبرياليا»؟ يبتسم لك وأنت تروي له طرفة عن خصمك البلدي، فيما هو في لوحه النظري الأعمق، يضحك من التصنيفين المحتملين: كيف أكون «صليبياً» وأنا ملحد وكافر وأزدري كل مقدساته وأحترف الضحك على كل رجال دينه؟ ثم كيف أكون «إمبريالياً» وهو يدعوني كل يوم وكل لحظة للقيام بواجباته الوطنية والسياسية والاستثمارية؟ ثم ما ذنبي في كل ما يقال ويطرح ويطلب، إذا شاءت ظروفكم السيئة، أن تدخلوا ذروة الصراع السني الشيعي في المنطقة، فيما سنتكم يأتمرون بالسعودية وشيعتكم مع ولاية الفقية؟
ينتهي حوار السياسي اللبناني مع الدبلوماسي الغربي باستذكار الاثنين لعبارة راجت بعد انتهاء حروب فييتنام. يومها صارت كل مقاومة في وجه أي احتلال في أي بلد على كوكب الأرض، ترفع شعاراً موحداً يقول: «ليسوا أقوى من أميركا، ولسنا أضعف من فييتنام»... يتذكر المتحاوران الشعار، ويتساءلان: أي ساذج كتبه؟