يأنف الماركسيون المثاليون من القراءة الخلدونية للتاريخ العربي المعاصر، ولكن هذه القراءة تفرض نفسها بالمعطيات التي لا يمكن تجاهلها؛ مَن ينكر أن النهضة العربية الأولى من الربع الأخير للقرن التاسع عشر حتى اربعينيات القرن العشرين، ارتبطت بالمسيحيين العرب؛ بصعودهم الاجتماعي والثقافي، واحتياجاتهم العيانية إلى التحرّر من سيطرة نظام الملل العثماني، والدفع بفكرة العروبة كإطار يسمح لهم بالاندماج على أساس قومي لا ــــ ديني. وهو نهج تنامى من مستوى النشاط الثقافي والأدبي، إلى مستوى النشاط الفكري ــــ السياسي ــــ التنظيمي.
مَن كان أبرز زعماء المشرق، في تلك المرحلة، سوى أنطون سعاده وميشيل عفلق وفهد ـــــ مؤسس الشيوعية العراقية؟ لم يكن كل ذلك «مؤامرة مسيحية»، وإنما حراك مشرقي عربي أصيل نهضت به الجماعة الاجتماعية الثقافية الأكثر تقدما حين ذاك.
مع عبدالناصر، اندفعت الكتلة السنية إلى صدارة المشهد العربي؛ اكتشفت ذاتها في الانخراط في حركة قومية نصف علمانية، متصالحة مع اسلام وسطي، مضاد للإخوان المسلمين والرجعية الوهابية. انتقلت النهضة من المشرق، المتعدد دينياً وثقافياً، إلى مصر المتجانسة التي تحولت إلى مركز قومي؛ أصبح أبطال المرحلة ناصر وبن بله وياسر عرفات ومعمر القذافي وصدام حسين. (حافظ الأسد، برغم أصوله العلوية وفكره التقدمي العلماني، كان «سنيا»، من الناحية السياسية والسيميائية، لكن المخيال المذهبي العربي، لم يقبل باندماجه).
الحركة القومية العربية، ذات المنحى الناصري، عبّرت عن صعود العرب السنّة؛ في عهد ناصر، فقد أقباط مصر ــــ من دون أن يُضاروا ــــ دورَهم الفعّال السابق في الحركة الوطنية المصرية. أما الكتلة السنية في سوريا، فقد ذهبت نحو وحدة مع مصر الناصرية، تحرّرها من البعثيين والقوميين السوريين والشيوعيين، المنظمين والفاعلين، سياسياً وثقافياً، والمنطلقين، بصورة رئيسية، من جماعات غير سنية. وفي العراق، وقف ناصر ضد ثورة 1958 الجماهيرية التي أظهرت قوة الكتلة الشيعية العراقية، المتجهة يساراً؛ لقد ضُربَتْ ثورة 58 ضربات مثابرة، كان طابعها العميق، مذهبياً؛ انتهى الأمر بالتسنّن التدريجي لحزب البعث العراقي الذي حكم البلد منذ 1968، وأصبح معادياً، على طول الخط، للبعث العلماني الحاكم في سوريا. كان صدام حسين يرى الوحدة مع رفاقه السوريين، في عمقها، مسعى لتصحيح التوازنات بين الكتل الاجتماعية الثقافية في البلدين، ما مثّل، عنده، «خيانة» لسلطة العرب السنّة في العراق، استحق، بسببها، بعثيون وحدويون، الإعدام جراء تورّطهم في «مؤامرة الوحدة» العام 1978. في لبنان، حكمت مليشيات فتح، البلد، بفضل الحاضنة المذهبية التي توفرت لها، وكونت «الكتلة الحرجة» التي التحق بذيلها قوميون ويساريون، إلى حدّ أنهم قاتلوا ضد سوريا الأسد.
القانون الذي حكم، ويحكم صعود الجماعات العربية، هو العداء للوهابية والرجعية والتمسك بالإطار القومي في الداخل، واتباع سياسات تحررية معادية للإمبريالية وإسرائيل. وهكذا، فإن قيام السادات بنقض هذا القانون في كل معادلاته، كان إيذانا بأفول السنية السياسية، ووقوعها بين براثن الوهابية والأخونة والتكفير، من جهة، وشبكة الأفكار والعلاقات النيوليبرالية والتبعية للغرب، من جهة أخرى.
رغم ما أحدثته من أصداء مدوّية، فإن الثورة الشيعية الإيرانية، العام 1979، لم تتفاعل عربياً، إلا بالقدر الذي أطلق العنان لقوى الاسلام السياسي السني لأسلمة الحياة السياسية العربية. الظهور الشيعي على المسرح العربي، ارتبط بحزب الله الذي استطاع أن يصعد، معتمدا على القانون القومي الأساسي لصعود الجماعات الاجتماعية العربية، أعني اطلاقه مقاومة معادية للتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي، بدأت تكتسب المزيد من الهيبة السياسية، منذ الثمانينات، ولكن، تحديدا، بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان. حزب الله الذي أرغم إسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني، العام 2000، وهزم العدوان الصهيوني ــــ الرجعي العربي، العام 2006، تحوّل، اليوم، إلى قوة إقليمية، تردع الإسرائيليين، وتقاتل في سوريا والعراق. في سوريا، صمدت العلمانية القومية التعددية في مواجهة الإرهاب الوهابي التكفيري. وفي العراق، وبعد عقد من التخبّط السياسي والغرق في علاقات التبعية للإمبريالية وفي الفساد، استردت المرجعية، جماهير الكتلة الشيعية، وأطلقتها في حركة وطنية وحدوية تتجه، ليس فقط إلى هزيمة الإرهابيين، وإنما، أيضا، إلى إعادة توحيد العراق. وقد تأخرت هذه الخطوة كثيرا، ولا تزال تحتاج إلى التنظير والتأطير.
غير أن أفضل حركات التشيّع السياسي هي تلك الناشطة في البحرين واليمن؛ فالحراك البحريني، رغم أنه يستند إلى كتلة جماهيرية شيعية، فهو يتبنى برنامجاً وطنياً شاملاً لنهضة البحرين، بالوسائل الديموقراطية، ويلحّ على هويته المحلية. أما حركة أنصار الله اليمنية، فإن لديها من الوعي الوطني والجرأة والثقة بالذات والتحرر من عقد المذهبية، ما يجعلها تتصرف كحركة وطنية يمنية، من دون الخضوع للحسابات المذهبية ــــ كالتي يأخذها حزب الله في لبنان أو القوى الشيعية في العراق ــــ وهي، بذلك، تجمع، وستجمع إليها، كل أحرار اليمن، بغض النظر عن الانتماءات المذهبية والقبلية، في معركة التحرر من الهيمنة الخليجية والارهاب التكفيري.
نحن، إذاً، أمام معطيات المرحلة الثالثة من النهوض العربي، المرحلة الشيعية التي آن الأوان لمناقشة عناصر قوتها وضعفها. وهوما سنفعله في المقال اللاحق.