قبل ستّ سنوات، في إحدى ليالي آب الحارّة، كان طريق المطار القديم على مداه... يَشتعِل. الإطارات المَطاطيّة المُلتهِبة في كلّ مكان. هتافات، أجساد عارية مِن فوق، غضب، قطع طرقات، عراكات، جيش، شُرطة، حزبيّون، وجهاء، شتائم، مُطاردات، دماء مِن الأنوف، اعتقالات، كرنفال صخبٍ متفاقم، ثمّ مع بزوغ الفجر يَضع "الشغَب" أوزاره. في أتون تلك الليلة، نأى أحدهم مع رفيقه بضعة أمتار عن ساحة النار، وعلى صدى القرآن الذي بدأ ينبعث مِن مسجد المحلّة، قال له: "مِن هنا، ومِن الأماكن الأخرى على مساحة البلد، التي تشهد هذا الغضب، ستولد انتفاضة لن يكون بعدها كما قبلها. هذه الغضبة، هذه تحديداً، هي آخر أمل يُمكن أن يُعوّل عليه". كانوا نحو مئتي شاب، في ذروة غضبهم، جمَعهم الحرّ الشديد، فخرجوا مِن منازلهم. كانوا يُريدون مِن السُلطة أن تتوقّف عن "التقنين القاسي" في الكهرباء، الذي استجدّ آنذاك، وأن تُعيد "التقنين العادي" إليهم. هكذا فقط.منطقة طريق المطار، في تلك الحقبة، كانت مكاناً تقليدياً للغضب الدائم. لطالما هرعت إلى هناك وسائل الإعلام وعربات البثّ المباشر. لم يعد هذا يحصل الآن. ما السبب؟ هل أذعنت السلطة وأصبحت "تهب" الناس كهرباء كافية؟ أبداً. ما حصل شيء آخر تماماً. شيء يأتي على شاكلة "فخ". على هيئة "خديعة كبرى". على نكهة "إبرة في العضل". تُغرَز في عضل الوعي، سيكولوجيّاً، إن جاز المجاز رمزيّاً.
في الواقع، كانت الكثير مِن المناطق اللبنانيّة تَشتعِل، في تلك الليلة، بالطريقة عينها، وللسبب نفسه. الأزمة كانت "وطنيّة". في عكّار، بعد قطع الطرقات، أقام الغاضبون خيماً ثابتة. مِن طرابلس شمالاً إلى زحلة بقاعاً، وصولاً إلى مناطق متفرّقة في الجنوب، وليس أخيراً طريق الجديدة في بيروت... كلّها مناطق كانت انبعاثات الإطارات المُشتعِلة تزيد في حرارة أجوائها. تناولت وسائل الإعلام تلك الأحداث في اليوم التالي. كنّا في تلك الليلة، وصنوها مِن الليالي التاليات، أمام حزب مِن الغاضبين. لا تجمعهم بطاقة حزبيّة، ولا أيديولوجيا موحّدة، ولا طائفة دينيّة واحدة، فسواء علموا أو لم يعلموا، كانوا ــ وربّما ما زالوا ــ حزب تلك الطبقة مِن الناس الذين نهبت السُلطة كهرباءهم، وهم، في الوقت عينه، لا يقدرون، أو يُرهقهم، أن يدفعوا بدل اشتراكات خاصّة. يُرهقهم هذه تعني حدّ المفاضلة بين طعامهم و"المِروحة"... أو حتّى مُجرّد "لمبة". هؤلاء الذين، وباستعارة المصطلح الذي صكّه جورج أورويل، يَندرجون في خانة "اللابشر". هم كذلك في عيون مَن هم "فوق".
الآن، بعد ستّ سنوات، أين هم هؤلاء؟ لماذا خلت طرقات القطع التقليديّة مِنهم؟ لم نعد نراهم. كانوا "قضية" صيفيّة، على مدى سنوات، في وسائل الإعلام. الجواب: لقد أصبح لديهم، كلّهم تقريباً، اشتراكات كهرباء مِن أصحاب المولّدات الخاصّة. هذه هي. آنذاك كانت تلك المولّدات موجودة، صحيح، ولكن لم يكن الجميع قد "طبّع" معها بعد. كان عِرق "الحق الطبيعي" بالكهرباء، ما يُسمى كهرباء الدولة، لا يَزال يَنبض فيهم. لم يعد يَنبض الآن... أقلّه تجاه الكهرباء. لقد فعلتها السّلطة. تمّ تخديرهم. نشأ حلف شيطاني، والشيطان مجازاً ومِنه السماح، بين زعماء السّلطة، في كلّ المناطق، ومجموعة مِن المحسوبين عليهم، هؤلاء الذين يُطلق عليهم اليوم "مافيا أصحاب المولّدات". أذعن "اللابشر" أخيراً، جرى تدجينهم في هذه، فصاروا يقتطعون مِن دخلهم مبلغاً شهريّاً لصاحب المولّد، ولو عنى هذا تقنيناً ذاتيّاً في الطعام والشراب والدواء وأساسيّات الحياة. الكهرباء أساسيّة أيضاً. أصبح لا بدّ لهم مِن المفاضلة بين الأساسيّات، أو بالأحرى توزيعها بحسب ما يسمح دخل كلّ مِنهم. كانت هذه أكبر جريمة ــ خديعة ترتكبها السُّلطة في لبنان تجاه "لابشرها" في مطلع القرن الحادي والعشرين. هكذا جرى امتصاص "الغضبة". هذا المَسكوت عنه. لن تقوم ثورة، أو حتّى انتفاضة، مِن بوابة الكهرباء، بعد الآن. في مرحلة لاحقة، شرعنت السُّلطة وجود "قطاع" المولّدات الخاصة. صارت تفاوضهم على التسعيرة، يجتمعون بالوزراء، يَرفضون و"يَتدلّعون" ويقبلون ويُشاغبون، إلى أن تمّ تكريسهم. وصلوا إلى مناطق الأطراف كلّها. إلى المناطق الحدوديّة. انتهى كلّ شيء.
في آب الماضي، كتب هيو نايلو في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركيّة مقالاً عن كهرباء لبنان، شارحاً تخلّفها، ومادحاً بلديّة زحلة تحديداً، التي نجحت بأن تُقصي "مافيا" أصحاب المولّدات، وأن تُريح المواطنين مِن تسلّطهم واحتكارهم، وبالتالي أن تحصل على الكهرباء بلا تقنين، إنّما عبر "مشروع خاص". فرِح بعض اللبنانيين بأن ذكَر الأميركي كهرباءهم، ولو مِن نافذة التخلّف "والشرشحة". حتّى حكاية زحلة، ثمّة مَن يُريد تعميمها لتكون نموذجاً، فتُصبح، وقد أصبحت، أمراً واقعاً. ترسيخ "دولة المَزارع". قبل مدّة كان أحد أهل السُلطة يَحتفل بافتتاح سجن جديد، مَزهوّاً، هذا فيما تَحتفل دول أخرى بإقفال سجونها. هل لا يزال هناك، في هذه البلاد، مَن يتكلّم، ولو مجرّد كلام، عن مصانع كهرباء جديدة؟ لقد تكفّل أصحاب المولّدات بالمهمّة. يُحاول البعض، في إعلامنا، أن يُصوّرهم كجماعة أقوى مِن "الدولة"... والناس يُردّدون هذا خلف الإعلام. خديعة أخرى داخل الخديعة الكبرى. هم ليسوا إلا إحدى أدوات السُلطة. الجزء الخفي مِن أذرعها. أحدهم، دخل قبل نحو عامين السجن في ُجرم يتصل بـ"إثارة الفتنة". أيام قليلة ويُطلق سراحه، فيَكتب، على صفحته الإلكترونيّة، شاكراً الجهة الحزبيّة التي أخرجته. الجهة التي قيل إنّه "يُبلِّعها" بعض الاشتراكات المجانيّة.
كتب دوستويفسكي يوماً، في الجريمة والعقاب، أنهم: "في بادئ الأمر ذرفوا دمعاً سخيّاً، لكنّهم سرعان ما اعتادوا وألِفوا. إنّ الإنسان يَعتاد كلّ شيء... يا له مِن حقير".