تونس ــ الأخبارلم يكن موقف دولة الإمارات من الثورة التونسيّة إيجابياً، إذ لم تكتفِ باحتضان عدد من المقربين من نظام بن علي، بل عملت كذلك على تجميد عدد من مشاريعها الاقتصاديّة المبرمجة في تونس، إضافة إلى وضع عقبات في وجه العمال التونسيين والتدخل في الحياة السياسيّة المحليّة. ولا سبب آخر وراء غضبة أبناء زايد غير «حركة النهضة»، فهي الهدف التونسي لسياسة «وراء الإخوان في كلّ مكان»، وهو ما تؤكده وثيقة مسرّبة من مركز دراسات مقرب من سلطة أبو ظبي.

وسرّب موقع «الصدى» التونسي المقرّب من «النهضة» أول من أمس، وثيقة بعنوان «الاستراتيجيّة الإماراتيّة المقترحة تجاه تونس». صدرت الوثيقة، غير المنشورة للعموم، عن وحدة الدراسات المغاربيّة في مركز الإمارات للسياسات الذي ترأسه ابتسام الكتبي، المقرّب من سلطات أبو ظبي. ورغم صعوبة القطع بصحتها، فإنّ الوثيقة تحمل الأسلوب المستخدم نفسه في أوراق المركز ــ وهو لم ينشر على موقعه سوى دراسة واحدة فقط حول تونس خصّ بها مؤتمر «النهضة» الأخير ــ من ناحية طريقة الكتابة أو التوجه البحثيّ الذي جاء في تعريف المركز أنّه «يعطي الأولويّة لدولة الإمارات العربيّة المتحدة، بما يساعد على تحقيق فهم دقيق وواقعيّ لمصالح دولة الإمارات ودول الخليج العربيّة وأمنها»، كما خلت الوثيقة من اسم مؤلفها أو منسق الوحدة المسؤولة عن إنتاجها، كما هي حال بقيّة الإصدارات.
جاءت ورقة السياسات الموجزة (6 صفحات) في جزئها الأول وصفيّة، حيث تحدثت عن استمرار الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وضعف الحكومة الائتلافيّة (حكومة يوسف الشاهد)، وغياب زعامة كاريمزيّة قادرة على إنقاذ الوضع، وتشرذم وانقسام الجبهة المعارضة لـ«النهضة»، واستراتيجيّة الحركة للهيمنة على المشهد السياسيّ.
أما في الجزء الثاني والأهم، فتقترح الوثيقة على قيادة الإمارات استراتيجيّة للاستفادة من الأوضاع القائمة وتحقيق تطلعاتها في الساحة التونسيّة. وهي تتحدث عن كسر النفوذ الجزائريّ والقطريّ وأدوات تحقيق ذلك. فهي ترى في الجزائر، وبالذات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والقيادات العسكريّة النافذة، حليفاً لزعيم الحركة راشد الغنوشي الذي ساهم في تقوية علاقاتها بالإسلاميين الجزائريّين والليبيّين، وكذلك الأمر مع قطر التي تحظى أيضاً بحضور إعلاميّ وثقافيّ محلي قوي.
وتقوم الاستراتيجيّة المقترحة على ثلاثة أسس: أولاً، محاربة التطرف بأبعاده من خلال دعم التديّن التقليديّ ممثلاً بـ«جامعة الزيتونة» باعتبارها غير مسيّسة أو مؤدلجة، وذلك عبر إعادة الاعتبار لشيوخها ورموزها، وبناء شبكة علاقات ومصالح مع المؤسسات البحثيّة والفكريّة المعادية لـ«النهضة» وفكرها، ورصد تيارات التطرف العنيفة الناشطة محلياً؛ ثانياً، العمل على بناء كتلة سياسيّة موالية للإمارات من خلال دعم محسن مرزوق (الأمين العام لحزب «مشروع تونس» المنشق عن حركة «نداء تونس»)، والانفتاح على الأحزاب والشخصيات «الدستوريّة» غير المنخرطة في منظومة الحكم، ورعاية شخصيات سياسيّة وازنة على غرار المعارض أحمد نجيب الشابي، وخلق روابط مع منظمات المجتمع المدنيّ الفاعلة مثل الاتحاد العام التونسيّ للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة؛ ثالثاً، كبح النفوذ القطريّ باتباع خطوات عمليّة؛ منها بناء شراكات اقتصاديّة ومالية مع رجال أعمال بارزين تنعكس مستقبلاً في شكل وزن سياسيّ، ودعم قطب إعلاميّ منافس للقطب القطريّ، ودعم مؤسسات ومنتديات ثقافيّة منافسة لمثيلاتها القطريّة.
ويأتي التسريب الجديد في خضم اشتداد الصراع الخليجي، وتونس هي البلد العربيّ الوحيد الذي لم تستطع الإمارات، ومن ورائها السعودية وبقيّة المحور، كسب موطئ قدم داخله على حساب قطر ومحورها، رغم ما بذلته من جهود على مدى السنوات الأخيرة. وكانت نيات أبو ظبي قد بدأت في التكشف للمرة الأولى في الفترة اللاحقة لأحداث صيف 2013 في مصر والتي أدت إلى إطاحة رئاسة محمد مرسي. حينها، قال كمال مرجان، وزير الخارجيّة زمن بن علي، ورئيس «حزب المبادرة الدستوريّة»، في تصريح زمن حكم رئيس الوزراء المؤقت مهدي جمعة، إنّ «بعض الدول الخليجيّة تشترط على تونس اجتثاث حركة النهضة لتقديم يد المساعدة لها» (المفارقة أنّ اسم مرجان ورد في الوثيقة الأخيرة كنموذج للسياسيين الذين يمكن للإمارات التنسيق معهم). كما راجت في شهر تموز/ جويلية عام 2014 أخبار عن تلقي زعيم «نداء تونس» الباجي قائد السبسي، سيارتين من الإمارات. ووسط الجدل القائم حينها، أصدر «النداء» بياناً أكد فيه الشائعات، وقال: «إثر تواصل التهديدات الإرهابيّة الجدية المستهدفة لحياة الأستاذ الباجي قائد السبسي، بادرت صداقات عريقة له بدولة الإمارات العربيّة الشقيقة إلى توفير سيارتين مصفحتين لحمايته». لكن السبسي خيّب ظنّ أبو ظبي بمجرد وصوله إلى منصب الرئاسة، حيث دخل في تحالف مع «النهضة»، وشدد في خطاباته على أنّ «النهضويين» هم في النهاية تونسيون ولا يمكن إقصاؤهم، في رسالة غير مباشرة إلى أبناء زايد ــ حكّام الإمارات.
لكن يبقى أخطر ما رشح من أخبار حول نيات الإمارات هو ما أورده موقع «ميدل إيست أي»، الناطق بالإنكليزيّة والممول قطرياً. فقد نقل عن مصدر تونسي رفيع المستوى، رفض ذكر اسمه، أنّ مسؤولين جزائريين حذروا نظراءهم التونسيين في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015 من خطة إماراتيّة للتدخل في تونس. وقال المصدر إنّ مسؤولاً جزائرياً أعلمه بتقرب أبو ظبي من بلده اعتقاداً بأنها تشاركها نظرتها تجاه ما يحصل. ولكن، بتغيّر رئيس جهاز المخابرات الجزائريّة، المعروف باسم الجنرال توفيق (أيلول/ سبتمبر 2015)، تغيّرت أولويات الجزائر تجاه حماية حدودها مع ليبيا، ما استوجب تنسيقاً وتعاوناً متقدماً مع تونس، وهذا ما عنى ضمناً أن استقرارها هو استقرار لجارتها، والعكس بالعكس.
ولرفع مستوى الضغط، قررت الإمارات عام 2015 وقف منح أو تجديد التأشيرات لأغلب التونسيين العاملين على أراضيها، من دون تقديم أسباب واضحة. ورغم محاولة المسؤولين الدبلوماسيين التونسيين حلّ المسألة، حيث عقد اجتماع ثنائي يوم 11 شباط/ فيفري 2017 لرفع الحظر وتبادل الزيارات، فإنّ الملف لم يشهد تقدماً يُذكر إلا مع بداية «الأزمة الخليجيّة» في ما يبدو أنه جولة أخرى من «جولات الترغيب والترهيب الإماراتيّة»، بلسان البعض.