الرائحة المنبعثة من مرفأ بيروت تصل إلى برج حمود وما بعده شمالاً وشرقاً. أما غرباً، فتتخطى وسط بيروت والسرايا الحكومية. تلك الرائحة الكريهة تنبعث من حين إلى آخر. يحار من يشمّها في تحديد مصدرها. مرة يُقال إنها من الأبخرة المتصاعدة من مكب برج حمود السابق. وحيناً يُقال إن سببها المسلخ، لكن السؤال يؤدي إلى مصدر آخر: بواخر محملة بالأبقار ترسو عند ميناء العاصمة، فتنبعث الرائحة من قاذوراتها. لكن الروائح المنبعثة من المرفأ تتخطى روث الأبقار. ثمة رائحة من نوع آخر. إنه الفساد الذي ينخر جسم الميناء البحري الأكبر في لبنان، وما يُتباهى بكونه صلة الوصل التجارية بين الشرق والغرب. أخبار الفساد في المرفأ تشبه الخرافات، ويصعب حصرها في موقع واحد. لكنها تتركز في مكانين لا يؤديان إلا إلى نتيجة واحدة: هدر مال الدولة، وبمئات مليارات الليرات.
المكان الأول هو الاستيراد: تُشحَن البضائع عبر مرفأ بيروت بحاويات. وكل حاوية تمنحها الجمارك اللبنانية إما بياناً أخضر، أو بياناً أحمر. الأخضر يعني أن البضاعة غير مشكوك فيها، ومطابقة لما هو مصرّح به. لا تخضع للتفتيش، وتخرج من المرفأ تلقائياً، بعد دفع الرسوم. وهنا مربط الفرس. تبدأ الخطوة الأولى من رحلة الفساد. قبل تحديد لون البيان، يتدخل الرجل السحري: «الترانزيتور»، أو مخلّص المعاملات. إذا أراد تاجر ما إدخال بضاعته بلا وجع رأس، يقصد «الترانزيتور» قائلاً له: سأدفع لك «مقطوع». وسعر هذه الكلمة 12 ألف دولار. أما ترجمتها العملية فتعني أن المستورد سيدفع 12 ألف دولار، هي ضمناً بدل الرسوم الجمركية، وضريبة القيمة المضافة ورشوة الجمركيين المعنيين وحصة مخلّص المعاملات. لا فرق إذا كانت البضاعة المستوردة ذهباً أو تراباً أو خضاراً أو أدوات كهربائية. ولا فارق بين بضاعة مشمولة بالضريبة على القيمة المضافة، وأخرى معفيّة منها. كلها عند الترانزيتور سواء. وبحسب عاملين في المرفأ ومطلعين على شؤونه، بإمكان «الترانزيتور» أن يسجل الثياب الغالية الثمن شوكاً وسكاكين، كما بإمكانه تسجيل الذهب مساحيق تجميل. وكل ذلك يعني ضياع عشرات ملايين الليرات على الخزينة العامة. هذه الإجراءات، على حد قول عاملين في الميناء، تستخدمها شركات كبرى، وذات أسماء لامعة، كما صغار المستوردين. فإحدى شركات الألبسة الشهيرة جداً، تستورد بعض ثيابها الـ«سينييه» على أنها «بالة»، تهرباً من الرسوم الجمركية المرتفعة. لكن في لبنان هناك من يعتمدون إجراءات قانونية مئة في المئة، ويدفعون رسومهم الجمركية كاملة وضريبة القيمة المضافة كما هي، إلا أن هؤلاء قلة، ويشار إليهم بالبنان.
وفي مرفأ بيروت «سكانر». ماكينة متطورة لمسح المستوعبات، تكشف ما في داخلها من دون الحاجة إلى فتحها. لكن اللبناني «الحرّيف» ابتكر طريقة تسمح، عندما يحضر الترانزيتور «الشاطر» وأوراق العملة الخضراء، بتعطيل السكانر بطريقة تظهر معها النتيجة التي يريدها الزبون.
لهؤلاء «الترانزيتور» شركاء في الجمارك في المرفأ، من مفتشين ورؤساء تفتيش، وصولاً إلى بعض من في الإدارة. وبعض ما يقومون به بحاجة إلى شركاء خارج المرفأ أيضاً، وتحديداً في أمانات السجل التجاري. فمرفأ بيروت، كما غيره من الموانئ، لا يُستخدم للاستيراد فقط. و«سكة» الفساد تسير على خطين: في الاستيراد والتصدير، وتحديداً، في إعادة التصدير. ومن يستورد إلى لبنان شاشات كومبيوتر متطورة، مثلاً، يدفع رسومها الجمركية، وضريبة القيمة المضافة. وإذا أعاد تصديرها، يسترد من وزارة المال ما دفعه من ضريبة. الإجراء حتى الآن قانوني وطبيعي. لكن بعض التجار يستغلون هذا الأمر لتحصيل مبالغ مالية طائلة، من دون وجه حق. شاشات الكومبيوتر المتطورة ذاتها تُسجّل في خانة إعادة التصدير. ومجدداً، بواسطة ترانزيتور شاطر، وجمركي مرتشٍ، يحوي المستوعب، بدلاً من شاشات الكومبيوتر، بطاطا منتجة في البقاع. تتم العملية، انطلاقاً من العنبر الرقم 6، ويسترد التاجر من الخزينة نسبة الـ 10 في المئة التي سبق أن دفعها ضريبة على القيمة المضافة. أما الشاشات، فتُباع في السوق اللبنانية، ويستوفي التاجر من زبائنه بدل القيمة المضافة مجدداً، ليبدأ نهاره بنسبة ربح غير مشروع تبلغ 20 في المئة من قيمة السلعة، من دون حساب هامش ربحه المعتاد.
أين دور السجل التجاري؟ بعض التجار يخترعون شركات وهمية، مستخدمين أوراقاً ثبوتية مزورة. ولهذه الشركات رقم مالي وهمي أيضاً. وبعد استخدام بياناتها لمدة عام واحد تختفي من الوجود، لتنشأ بدلاً منها شركة جديدة، وبالطريقة ذاتها.
الفساد في المرفأ يفيض عما فيه. وكل ما يُحكى عن المطار يكاد لا يساوي نقطة في بحر الميناء. فتشدد جهاز أمن المطار في ضبط المخالفات، وخاصة في الآونة الأخيرة، دفع بعض المستوردين إلى ابتكار أسلوب جديد للعمل. إذا حُجِزَت البضاعة المستوردة في المطار لسبب ما، يلجأ المستورد «الشاطر» إلى حيلة الترانزيت. تُنقل البضاعة من المطار إلى المرفأ، «ترانزيت». ومن هناك، يُعاد إدخالها إلى لبنان، بواسطة ترانزيتور شاطر، وجمركي مرتشٍ، وإدارة عمياء أو مشتركة.
يؤكد عاملون في المرفأ أن «الترانزيتورية» يتنافسون في ما بينهم. وغالباً ما يسعى المفسدون منهم إلى إبعاد من يعملون وفقاً للقانون، على قلتهم. وللفاسدين أسماء معروفة. بعضهم، وهو الأقوى، يعمل من دون أي صفة رسمية، مستخدماً تواقيع زملاء له يحملون تراخيص للعمل في ميناء العاصمة. وكل الفاسدين يحظون بحمايات سياسية، ومعروفون في الأوساط الأمنية والإدارات الرسمية.
المعنيّ الأول بمعالجة ما يجري في مرفأ بيروت هو وزير المال محمد الصفدي، الذي ورث مشكلة صارت متجذرة في الأحواض التي ترسو فيها سفن الشحن. بعض المقربين منه يعرفون أن مئات مليارات الليرات تُسرَق من الخزينة. الوزير يبذل جهده، بحسب المقربين منه، لمعالجة الملف، عبر إجراءات لا يراها بعض المعنيين كافية. ويشكو عاملون في الميناء من أن بعض من يقدّمون أنفسهم للوزير على أنهم إصلاحيون هم أنفسهم ممن يعرفون سبل الفساد التي سلكوها سابقاً. في المحصلة، يبقى للحل عنوان واحد: تعيين شخص كفؤ في منصب المدير العام للجمارك، وآخر في رئاسة المجلس الأعلى للجمارك.