أنتِ صورتُكِ. صورتكِ مصدرها أنتِ، شكلكِ، صوتكِ، إيقاعاتكِ الخفيّة المتماوجة في نفسه، الناشبة مخالبها في حواسه، صورتكِ مصدرها أنتِ وليست تزويراً أو وهماً، لكنّها، مع هذا، مخلوقٌ مستقلّ بكامل مواصفات المخلوق المستقلّ، المستبدّ، له قاموسه وطقوسه، وعليكِ واجب حماية هذه الصورة كأنّها تماماً روحُكِ وجسدكِ، وأكثر. وعلى الرجل واجبُ عدم النطق او التصرّف بما يخدش هذه الصورة، لا القلب ولا القالب.

■ ■ ■


وأنتَ أيضاً صورتكَ، ولكنْ مع أسبابٍ تخفيفيّة معظم الأحيان. المرأةُ لا تتعامل مع أسطورتك بل مع واقعك. يتبقّى من وهجك الخارجي فيها مقدارٌ «طبيعي» لا مبالغةَ فيه. قد تنبهر بمظاهرك وشهرتك أوّل الأيّام وسرعان ما تبدأ تراك على حقيقتك. كأنّ الواحدة عجنت الواحد منّا وخبزته وأكلته مراراً قبل أن يُخْلَق. المرأةُ سبقت الرجل إلى الوجود.

■ ■ ■


تعشق امرأةٌ رجلاً على شهرته، وما إنْ تعاشره حتّى يسقط لها قناعه. للمرأةِ طبيعةُ الطبيعة. جرّبْ أن تخدع البحر، أن تخدع دورة الفصول، أن تخدع الأرض. طبيعةُ الرجل أكثر استعاريّة. لا لزوم لأن يكون الرجل استثنائيّاً ليعيش بذهنه. أيّ رجل، لمجرّد تكوينه، لديه قسطٌ من الذهنيّة يتحكّم في غرائزه، أو هو على الأقل عنصرٌ مهمّ فيها. الذهنُ هو الصورة. التذهين أساسيّ في الرغبة. التذهين أبو الحلم. الحلم غائم لولا عَضَل الذهن. الذهن خيال. الخيال لا يرحم: الصورة في مقدَّم الرحلة وإلّا فلا إقلاع.

■ ■ ■


يستطيع الرجل أن يحب امرأةً على شهرتها وأن يظلّ يحبّها بعد أن يصبح جزءاً منها وتصبح جزءاً منه. للهالةِ عليه مفعولٌ أكبر من مفعول هالة الرجل على المرأة. الرجل لا ينجو من هالة المرأة إلّا محروقاً كالفراشة. المرأة، لسوء حظّها، تنجو من هذا الفخّ الرائع.
هالةُ الشهرةِ المحيطة بامرأة طبقة معنويّة إيروتيكيّة ذات طاقة غير محدودة التأثير. طيف لا يستهلكه الرجل. طبقة مستعصية على الدمج. هي الظلّ الذي يغدو في عيني الرجل أحقّ من الأصل، فوق الشبهات، ينتصر على الواقع والحقيقة، يتغذّى من افتتان لا توقظه صدمة ولا يخونه شرود. هنا يبلغ الحبّ ذروة اللارؤية إلّا من بَصَر الذهول، وتشتدّ حميّاه بمقدار اشتداد حاجة العاشق إلى الإعجاب. امرأةٌ تُعْشَق بهذه العبادة قد تَملّ عاشقها بعد حين إذ تحتاج إلى علاقة أكثر واقعيّة تُعامَل فيها معاملة الأنثى لا معاملة الإلهَة، وترتاح إلى واقعيّة أمرها دون اضطرار المحافظة على مستوى صورتها في ذهن العاشق. حَقّ. التأليه لا يُتعب المؤلِّه بل المؤلَّه. مسكينةٌ المرأة؟ صحيح: إنّها أسيرةُ فتنتها. وإذا أرادت الحبّ الكبير على وتيرةٍ حارّة فستُتعبها صورتُها فيه.
هذا ثمنُ الحبّ. لا حريّة في الحبّ.

■ ■ ■


المجد الذي نراه في الصور محيطاً برؤوس القدّيسين هو نفسه مجد الحبّ. يرسم العاشق والعاشقة حولهما دائرة خشوعٍ من نوع الهيبات ذات النصف هنا على الكوكب والنصف الآخر ما وراء الأفق. لا شيء يجمع الطهارة والرغبة، والرأفة والفتنة، في بوتقةٍ واحدة سوى الحبّ.

■ ■ ■


يستطيع الحبّ الكبير أن يلتهم العاشق. بعدئذٍ تغدو ذكرياته أحلاماً وماضيه مستقبلاً يغرق فيه.

■ ■ ■


هل صحيح أنّنا لا نختار مَن نحبّ؟
بلى نختارهم، يختارهم كلّ ما فينا ممّا يَعقل وممّا لا يعقل. الحب ليس أعمى. إذا فشلت علاقة حبّ فليس فلأنّنا، نظرنا جانبيّاً من عين واحدة.
لا بأس أن نستسلم للجاذب، على أن لا نربط مصيرنا إلّا بالجاذب الذي في غيابه ننطفئ. الجاذب الكياني. الجاذب الكياني يعصف بالجذور ويهزّ لاوعي الطفل الذي فيك، يخضّه كما يخضّ التجلّي، ومعجزةُ الشفاء، وقرصُ الشمس قلبَ العتمة. يعصف ويغسل وجه الوجدان غَسْل الحرير والعاصفة، زارعاً كلّ شيءٍ من جديد، دالّاً على كون هذا الوعد هو ما كان يومئ للبال، وأن هذا الجسد هو لهذا الجسد، وهذه الموسيقى لهذا الراقص، وهذا الحاضر لهذا الحاضر.
بلى نختار. ولكنْ... متى؟ يا لَحَظّ الذين يختارون من أوّل مرّة الاختيار الصحيح!، يا لحظّ الذين يختارون خطأ ويتاح لهم أن يتراجعوا! يا لحظّ القادرين على الانتظار ليضعوا خَتْمهم بكلّ ثقة على اختيارهم! ويا لتعسهم ما أكثرهم أولئك الذين يكتشفون ضالتهم بعد فوات الأوان...
كمَن يكتشف سرّ الحياة قبيل الموت بلحظة.

■ ■ ■


امتدحْ محبوبك بإسراف. لا تتضايق من دلاله ولا من ارتيابه أو من حيائه. بخور المديح الغرامي أشهى بخور، وورْدُ المديحِ يُورّد خدّ الروح. اغْدق من القلب، إذا لم تُسكر محبوبك بالمديح فكيف يَسْكَر؟ وإن لم تَسْكر بمرآه وتجاوباته فَبِمَ تَسْكَر؟ وإنْ لم تَسْرَح مع أصدائه فأين فضاؤك لتسْرح؟
مديحُ المعشوق هو المديح الوحيد الخالي من المبالغة. تمادَ. مهما تماديت تظل بَعْدَكَ في البداية.

■ ■ ■


... ولن تصيرا واحداً.
هذا الشوقُ نصف الصادق لن يتحقّق.
لن تصبحا واحداً مهما أوغَلَ بينكما العناق.
فشل الاتحاد مؤكّد.
ولولاه، هذا الفشل، كيف كان لنا أن نظلّ نشتاق؟

■ ■ ■


أحبُّ غيابكِ.
أحبّ حضوركِ كثيراً، لكنّ غيابكِ أحبّه أكثر.
أنْقصُ بدونكِ، ازدادُ اكتمالاً بحضورك، لكنّي أشعر بنقصي من دونك أقوى من إحساسي بالاكتمال في حضورك.
أحبّ غيابكِ.
لا تفضّلي غيابي، لا تحبّيه.
دعي لي وحدي هذا الانحراف.
ولن تعرفي أن تملأي غيابي كما أملأ غيابك.
صَوتي لكِ يحْملكِ في غيابك كما لا يحمل صوت ولا سكوت. مخاطبتي إيّاكِ أصدق، إصغائي لكِ أعمق. أنا في غيابك كامل.
دعي لي أن أملأ غيابكِ بالفراغ المجنّح: جناحٌ للقلق لا يعرقله خَدَر، وجناحٌ للخيال لا يَكْسره نقصٌ ولا يُشْبعه كمال.



عدلـــــي

وداعاً شقيقي الأكبر عدلي. 65 سنة صحافة بين بيروت ولندن. وسامُ الفقر والطيبة. الصحافي الوديع، الذي بقي إلى النهاية يظنّ الناس مثله ولا يحسب لنكران الجميل حساباً. ولما صُرف من عمله عقاباً له على شيخوخته لم يقل شيئاً. ولا عتاب. ولد صحافيّاً في الجريدة التي مات خارجها. بعض الأماكن رحّالة. لا ترحل أنت عنها؟ تَرْحل هي عنك. عدلي كان ألوفاً. وكان صديقه يدمنه. وكان خفيف الوطء. وكان مظلوماً. وكان عاطفيّاً ويحب الضحك. وكتب كثيراً. وأواخر كتاباته كانت واقعيّة مختصرة على خطى الوالد، إلّا حين يفرج عن حنينه إلى الحنان، فينطلق منه أنينُ عصفورٍ جريح يَتَّمهُ القفص ويَتَّمه الهواء ويتَّمه الماضي ويَتّمهُ ما تبقّى من الحياة.
كان مصلوباً رَضيّاً. رضيّاً، كانها منذ الطفولة. مصلوباً، صارها بأعباء المعيشة، والعقوق، وتنافر القَدَر والمصير، والتهام حريق الواقع لحديقة الأحلام.
يوم غاب فؤاد رفقه كتبتُ عنه كلمة فقال لي الصديق ياسين رفاعيّة: «ليتكَ قلتها له وهو حيّ!». الحياة تُخْجلنا أيّها العزيز. الموت يَرْفع الكلفة.