ردّاً على مقالي المنشور في «الأخبار»، الناقد ليسار الثورة اللبنانية، ادّعى الإعلامي معين جابر، بأن تخصيصي له ومنصته في هذا النقد كان يتساوى في وطأته مع هجوم إعلامي صهيوني على تلك المنصة، أي أن معين ساوى بين شخص عاش معظم عمره تحت الاحتلال، والذباب الإلكتروني الصهيوني الذي يدعم هذا الاحتلال (والذي لم يهاجم منصة «سردة» بالمناسبة، بل هاجم باسم يوسف على وجه الخصوص). قبل البدء في الردّ، علينا أن نكون عادلين هنا. إنّ نقدنا لمنصة «سردة»، لا يعني أننا لا نثمّن محاولتها لفتح نقاش عن الحرب الإبادية الحالية في غزة، ولا يعني أننا لا نثمّن رفضها لدعاية الكتائبيين-الفلنجيين، في أن الحرب ليست حرب اللبنانيين.
أمّا ثاني مسألة تسبق الدخول في صلب النقد، فهي ظاهرة مديح الذات بصفة الاستقلال الفكري. يقول معين جابر إن تهجم وسائل إعلام صهيونية وممانعة في الوقت ذاته على منصته، هو «شهادة على من نحن»، هو دليل على أنه وميديا عازوري من أصحاب الحق. علي شريعتي، هو من ابتكر بدهاء هذا التموضع، عندما قال إن الشيوعيين يظنون أنه إسلامي والإسلاميين يظنون أنه شيوعي، وإن هذا دليل على تفرّده الفكري. للأسف، استهلكت نقطة التحدّث هذه وتم تكرارها من قبل كثيرين حتى فقدت معناها. المفكّر السلوفيني سلافوي جيجك، لم يصمت لعقدين بشأن كيف أن استقلاله الفكري جعل العرب يتهمونه بالصهيونية والصهاينة يتهمونه باللاسامية، قبل أن بات أخيراً بوقاً لـ«الناتو» يبرّر الإبادة في غزة.
كشف ردّ معين جابر، وتحويله لي إلى ذبابة إلكترونية لمحور الممانعة، الخلل في فكر شخوص ثورة 17 تشرين، ظانين أن كل من يكتب في «الأخبار» قد سلّم عقله إلى ديستوبيا إيرانية توتاليتارية متخيّلة، غير موجودة على أرض الواقع. تلك الأساطير في عقل الثائر اللبناني، لا تأخذ في الاعتبار أننا علمانيون وأن توافقنا السياسي مع حزب الله لا يعني توافقنا الاجتماعي معه. كما لا تستوعب تلك العقلية أننا نكتب في «الأخبار» في مساحة تسمح بنقد السياسة الخارجية الإيرانية في المشرق، وبنقد سياسات النظام السوري، وبنقد تدخّل حزب الله في سوريا.
لم يكن نقدي للثورة اللبنانية دفاعاً عن «المحور» بل كان نقداً علمياً قائماً على أولوية نقد اليسار لليسار. في ذلك نجد أنّ مآلات الثورة اللبنانية تشبه مآلات حراك «تمرّد» في مصر عام 2013. في البلدين كانت هناك احتجاجات واسعة بعد سنة من الانتخابات، أخذت لاحقاً صفة الحراك المعادي للإسلام السياسي، أي حراك يدّعي أنه معادٍ للفاشية بينما يملك بحد ذاته صفات فاشية، تتمترس بالدولة الرأسمالية-الأمنية (statism) بحجة الحفاظ على «سيادة» مصر من التدخّل التركي والحفاظ على «سيادة» لبنان من التدخّل الإيراني.
في هذه السياقات انحرف اليسار العربي عن مهام الحفاظ على إنجازات الانتفاضات الشعبية، وما يتطلّبه ذلك من إنشاء بنى بديلة على الصعيد المحلي والإقليمي، كإنشاء حزب أو ائتلاف يساري عربي موحّد، وانهمك، عوضاً عن ذلك، بخصومه المحليين. على فضائية ممانعة، لا يحبّها معين جابر، وصف أحد الضيوف عودة المؤسسة العسكرية إلى الحكم المباشر في مصر عن طريق حراك «تمرّد»، بأنه «إثبات لحب المصريين للحياة والفن والموسيقى». ما حدث في مصر من قبل يشبه ما يحدث الآن في لبنان، لسبب ما، يرى البعض أن سلاح حزب الله يمنع «حب الحياة» في بيروت وأنّ الجيش اللبناني هو الذي سينقذ لبنان من «الظلام».
سوف أتعمّد هنا اقتباس المعارض السوري ياسين الحاج صالح، لأن شخوص 17 تشرين يظنّون أن كتّاب «الأخبار» -القطيع الذي لا عقل له- يعتبرون قراءة «الجمهورية.نت» تابو معاصراً (على الهامش، ستجد لدى المعارضين السوريين العديد من المقولات الملهمة لن تجدها في صحافة الثورة اللبنانية -المنهمكة بمحاربة التنمّر- أخص بالذكر هنا نقد كرم نشار لحازم صاغية الذي عتب على «الجمهورية» لأنها منصة يسارية وليست منصة يمينية أو انعزالية). لنعد إلى الحاج صالح، الذي قال إن إمبريالية القوى الأجنبية، تخطف السيادة من الدول العربية، والدولة المحلية الرأسمالية-الأمنية تخطف السياسة من الشعب، والجماعات الجهادية تخطف الاجتماع من الناس. صحيح أن الثورة اللبنانية كانت ثورة على استحواذ الطائفة على الاجتماع والسياسة، ولكنها لم تكن ثورة تشكّك في مفهوم الدولة الرأسمالية-الأمنية المحلية ولم تكن ثورة بحق معادية للإمبريالية تمعن في المعنى الحقيقي لسيادة لبنان الغائبة منذ «استقلاله».
المشكلة الأساسية في الأيديولوجية الليبرالية ليسار الثورة اللبناني هي في ربطها تأسيس لبنان بسقوط الطغيان العثماني. هذا غير دقيق، تأسيس دولنا المشرقية مرتبط بشيء أكثر قتامة، هو موت اليسار العالمي في الحرب العالمية الأولى، ونكوص العالم إلى الفاشية. على هذا الأساس، من التناقض الادّعاء بأنك كوزموبوليتاني وداعم للسيادة في الوقت ذاته، ذلك لأن الكوزموبوليتانية الإسلامية ماتت دون أن تحل مكانها كوزموبوليتانية إنسانية، بل حل مكانها لبنان الحديث الكبير الذي نشأ -هو وحزب البعث- في فترة ما بين الحربين الفاشيتين.
العقل الليبرالي العربي، حمّل وزر هزيمتنا أمام إسرائيل بشكل كامل لأسبابنا الذاتية في الوقت نفسه الذي تبنّى فيه بكائيّة أن كل ما حل بنا سببه إيران. نحن لا نعيش في «دستوبيا إيرانية» بل نعيش في دستوبيا انعزالية، قائمة على أننا كلّنا كتائبيون؛ كلنا فينيقيون لبنانيون، وكنعانيون فلسطينيون، وفراعنة مصريون، كلنا نحب «السيادة» اللبنانية والقرار الفلسطيني «المستقل» وحقبة السادات «الذهبية»، وكلنا ندفع ثمن أيديولوجياتنا كل يوم.
معين جابر بنى موقفه السياسي المثالي، كشخصية عامة، على معارضة النظام السوري. ما لايعرفه معين هو أن فؤاد عجمي، أبو نظرية السيادة اللبنانية، كان قد احتفى في السبعينيات -وهو يحتفل بموت الوحدة العربية- بانعزالية حافظ الأسد وسياساته الواقعية المناهضة للتيار اليساري الراديكالي داخل «البعث». العالم المثالي الذي يعيش فيه معين بعيد عن الواقع، بعيد عن حقيقة أن والد معين يعمل في شركات إعلام وجامعات دول خليجية باتت تطبّع الآن مع النظام السوري (لا أعيّر معين هنا فكلّنا لنا أقرباء يعملون في الخليج وهذا من أعراض الدستوبيا التي نعيشها).
لكنّ هنالك أملاً ومخرجاً من هذه الدستوبيا. كان من السهل على السوريين، كما الكويتيين من قبلهم، أن يكرهونا نحن الفلسطينيين، وأن يصبحوا يمينيين وانعزاليين، لكن المجتمع الكويتي بات أكثر وحدوية واهتماماً بالقضايا العربية من «أبو عدي». والسوريون قاوموا مشاريع الانعزالية والتطبيع في ظروف الشتات المستحيلة. التقيت مرة بشاب وموسيقي سوري لاجئ في المهجر، أخبرني أنه محتار بين رغبته في العودة إلى الشام بعد منفى طويل الأمد وشدّ الرحال إلى القدس ويافا. في مثل تلك القلوب الناصعة نجد الشجاعة الحقيقية في مواجهة الدستوبيا.

* كاتب وباحث فلسطيني