تطلّع رئيس الولايات المتحدة الأميركية في وجوه جلسائه هنيهة، ثم أجاب بصوت خفيض: «إنه كذلك فعلاً!». ولم يشأ الصحافي الأميركي بوب وودورد، أن يكتفي بهذا الجواب القصير. فسأل جيمي كارتر قائلاً: «سيدي الرئيس: هل بإمكانك أن تؤكد لي المعلومة التي بحوزتي، ومفادها أنّ الملك ما زال يتقاضى من "السي آي إيه" رواتبه، منذ عشرين عاماً؟». ساد في المكتب البيضاوي، بعد هذا السؤال، صمت لبرهة قصيرة من الزمن. وبدا على وجه الرئيس الأميركي شيء من الضيق. والتفت إلى مستشاره للأمن القومي زبغنيو بريجنسكي كأنه يبحث عنده ماذا يقول. فبدا له وجه المستشار جامداً مُصْمَتاً كأنه قُدَّ من حجر. ولم يجد الرئيس بُدّاً، فأجاب الصحافي قائلاً: «معلومتك صحيحة. ولكني أريد أن أضيف أنني أصدرت اليوم أمراً بإيقاف دفعة بمبلغ 750 ألف دولار، وإنهاء جميع المخصّصات التي تدفعها "السي آي إيه" للملك حسين». وصمت كارتر لحظات، ثمّ أضاف: «على كل حال، هو ما عاد محتاجاً إلى هذه المرتبات. لقد صار الآن واحداً من أغنى الحكام في الشرق الأوسط».

علّق بن برادلي¹، (رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة «واشنطن بوست») متهكّماً: «لقد فاجأني حقاً أنّ ملِكاً يحكم بلداً، يمدّ يده ليقبض أجوراً من وكالة المخابرات المركزية. وأكثر ما أدهشني هو أنّ الرجل لا يشكو من العوز، فهو يملك مجموعة من القصور في أوروبا، لا يقل ثمن أقل واحد منها عن ملايين من الدولارات. بل إنّ إسطبلاً للخيول يملكه حسين في بريطانيا يزيد ثمنه على عشرة ملايين دولار»². أومأ الرئيس بيده، كأنه يعترض على جَرّهِ لهذا الحديث. ثم قال لبرادلي: «ليس هذا ما دعوتُكَ - أنت وبوب - إلى البيت الأبيض من أجله. لقد بلغني من جودي باول (المستشار الصحافي للرئيس الأميركي، والناطق الرسمي في البيت الأبيض، في عهد كارتر) أنكما تعدّان خبراً مدوياً في "الواشنطن بوست" عن الملك حسين». أضاف الرئيس قائلاً: «أنا أفهم أنه سبق صحافي كبير. والحقيقة أنني شخصياً فوجئت حين علمت أنّ حسيناً يتقاضى أجراً من "السي آي إيه". لم يعلمني بهذا هنري كيسنجر (وزير الخارجية في الإدارة السابقة) ولا جورج بوش (مدير المخابرات المركزية الأميركية في عهد جيرالد فورد) يوم زاراني، في الشهر الماضي، لإطلاعي على تفاصيل الأحوال في الشرق الأوسط». صمت كارتر قليلاً، ثم أردف قائلاً: «ليس بوسعي أن أتدخّل في ما تنشرونه في صحيفتكم. ولكن يجب أن أقول لكما إنّ نشر هذا الخبر عن حليف قديم للولايات المتحدة يضرّ بأمننا القومي. والأسوأ من ذلك أنّ اختيار هذا التوقيت بالذات لنشر المعلومة عن العاهل الأردني، بينما يتأهّب سايروس فانس (وزير الخارجية الأميركي) للقيام بأول زيارة له لدول في الشرق الأوسط، من بينها الأردن.. إنّ هذا يعرّض مصالح البلاد لأذى بليغ». نظر الرئيس كارتر بتمعن في عيني بن برادلي وبوب وودورد ثم أكمل بصوت جعل فيه شحنة من الرجاء: «لقد صَدَقتُكُما القول، وكنت معكما نزيهاً وصريحاً وواضحاً. والآن فإنّ الدور دوركما لتكونا أيضاً نزيهيْن وبارّيْن بوطنكما». أطرق الرئيس برأسه قليلاً، ثم رفعه ثانية، وأضاف: «إنّني وضعت أمامكما الحقيقة كلها، وأترك لكما التقدير الأخير. فمصلحة وطننا تعنيكما أيضاً، كما هي تعنيني».
قال برادلي للرئيس: «إنني طبعاً أتفهّم الموقف وأقدّره. ولكنني -يا سيدي الرئيس- لا أملك أن أحتكر لنفسي قراراً، وأصدر وحدي جواباً يجب أن يُتخذ بصورة جماعية في هيئة تحرير "الواشنطن بوست". إنني فقط أعِدك أن أنقل كلامك إلى زملائي، وأوضّح لهم حساسيات الموضوع وحرجه وتأثيره. وإنني أشكرك لما أتَحتَهُ لي ولبوب من وقتك».
في المساء، قرّرت هيئة تحرير جريدة «الواشنطن بوست» أنّ مهمة الصحافيين لا علاقة لها بالدفاع عن مصلحة نظام هنا، ولا بالاكتراث لسمعة ملك هناك، وأنّ واجب الصحافة الوحيد هو أن تنشر بين الناس الحقيقة. وفي صباح يوم الغد، 18 شباط 1977، نشرت الصحيفة قصة الملك حسين ووكالة المخابرات المركزية في مقال بقلم بوب وودوارد بعنوان «سي آي إيه دفعت الملايين لحسين ملك الأردن». ومن أبرز ما ورد في ذلك المقال أن الملك الأردني، كان يقبض لنفسه من وكالة المخابرات المركزية، راتباً قيمته 750 ألف دولار، منذ عام 1957 إلى عام 1977. وكان يتلقى أيضاً مدفوعات نقدية أخرى من رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في عمّان، لإيصالها إلى كبار ضباطه في الجيش وجهاز المخابرات، وأنّ هذه المدفوعات كانت جزءاً من عمليات سرّية تُعرف باسم رمزيّ هو «No Beef». وكانت الغاية منها تزويد الولايات المتحدة بأكبر قدر من النفوذ والتأثير في أعلى مراكز القرار في الشرق الأوسط.
وبالطبع، أثار نشر المقال صدمة في الأردن. وندّدت وزارة الخارجية بالقصة، وأصدرت بياناً وصف مقال وودورد بأنه «مزيج من التلفيق والتشويه». غير أنّ التنديد بالصحافي الأميركي الشهير لم يمنع بيان الخارجية الأردنية من تلطيف لهجتها مع الإدارة الجديدة في واشنطن، والقول: «إنّ علاقة الأردن مع الولايات المتحدة لن تتأثر أبداً بهذه الحملة المغرضة». ثم إنّ الحنق والغيظ لم يثنيا البيان عن التأكيد أنّ «المملكة الهاشمية ستواصل علاقاتها الوثيقة مع أصدقائها».

«ليفت» في مقرّ «الموساد»
استمرت العلاقات وثيقةً بالفعل بين العاهل و«أصدقائه»، لكنها لم تقتصر على «سي آي إيه» فحسب، بل شملت «الموساد» أيضاً. وفي العام الماضي، وبمناسبة حلول الذكرى الخمسين لحرب 1973، أصدر أرشيف الدولة الإسرائيلي مواد تتضمن وثيقة تتعلّق بمحضر اللقاء الذي جمع في صبيحة 25 أيلول 1973، رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير والملك حسين، بطلب عاجل من الأخير. وقد تمّ هذا الاجتماع في مقر لـ«الموساد» قرب تل أبيب. ويكشف محضر الاجتماع³ الذي سجّله إيلي مزراحي، مدير مكتب غولدا مائير، جانباً من تفاصيل حديث الملك عشية إعداد جيرانه المصريين والسوريين لحرب تشرين/أكتوبر.
سمع الإسرائيليون من «Lift» (وهذا هو الاسم الرمزيّ³ الذي أطلقوه على الملك حسين) أنه «صار الآن يعلم، من مصدر فائق الحساسية في الجيش السوري، أنّ جميع الاستعدادات للحرب ضد إسرائيل قد اكتملت، وأنّ جميع الوحدات السورية صارت في مواقعها، بما في ذلك القوات الجوية والصواريخ».

«مهنته كملك»
لم تكن علاقات حسين بالإسرائيليين أو الأميركيين أو البريطانيين جديدة ولا مفاجئة، ولا حتى العلاقات المشبوهة بوكالات الجاسوسية العالمية، كانت خافية عن أعين الكثيرين. لقد أكمل الرجل مساراً اصطنعه من قبله جدُّه، وأفراد آخرون من أسرته.
ولربما دافع بعض الأردنيين عن مليكهم بالقول إنّ العاهل الهاشمي كان مضطراً لأن يخوض في هذه الأوحال، ولم يكن مختاراً، وإنّ مهنته كملك كانت تدعوه إلى أن يصطنع لنفسه حبالاً من التحالفات والروابط يحمي بها عرشه، وإنه لم يجد ملجأ سوى الاحتماء بحلفاء أقوياء يسندونه في أوقات عصيبة هزت عروشاً من حوله، وأودت بملوك... بَيْد أنّ كلّ هذا منطقٌ لا يستقيم: إنّ حماية مُلكِ رجل، لا يمكن أن يكون بخيانة آمال أمّةٍ، وعبر طعن قضيّتها. ثم إنّ الدفاع عن حسين، لا يمكنه أن يبرّر الانحدار الذي أوغل فيه الرجل. لقد تردّى الملك الأردني في «علاقاته» مع أعداء أمّته إلى قاع لم يسبقه فيه أحد غيره.
سرعان ما أصبح الشريف حسين، أقرب ملوك العرب إلى قلب إسرائيل، وعقلها، وسمعها، وبصرها. وذات مرة، قال رابين لحسين مازحاً: «إنك، يا جلالة الملك، محبوبٌ في إسرائيل. ولو اخترت يوماً أن تترشح لمنصب رئيس الوزراء، فستفوز بأغلبية كبيرة»


بداية واعدة... وامتحانات عسيرة
وفي بداية تولّيه الحكم، أظهر العاهل الأردني الشاب منحىً أراد به التخلّص من إرث ثقيل أودى، أمام عينيه، بحياة جدّه الملك المؤسس. فالمصرع الشنيع خلق في أعماق الفتى صدمة لم يُشفَ منها طويلاً. ثم ما لبثت الاضطرابات التي تناهشت مملكته المركّبة أن زادت منسوب حيرته وهواجسه وقلقه. وأحبّ الفتى -في أوّل أمره- أن يبدأ عهده مصلحاً، وأن يتماشى مع مطالب الشعب وأمنياته. غير أنّ التحدّيات الخطيرة والظروف الجسيمة سريعاً ما طرقت إليه تترى. فبعد خمسة أشهر تقريباً من تسلم الملك اليافع لسلطاته الدستورية كعاهل للبلاد، حدثت مجزرة قبية في الضفة الغربية، والتي راح ضحيتها 67 شهيداً، معظمهم نساء وأطفال. وكان من أثر ذلك أن غمرت الاحتجاجات المملكة، وهزّت أركان العرش الأردني. ولم يقتصر الحنق الشعبي على الصهاينة، بل إنّ السخط شمل حلفاءهم الإنكليز، وشمل كذلك حلفاء حلفائهم. واضطر حسين أن ينأى بنفسه قليلاً عن الإنكليز، مداراةً ومهاودةً. فقام بتنحية قائد اللواء في الجيش الأردني البريغادير أشتون بتهمة الإهمال في الدفاع عن قبية. ثم أقدم الملك بعد ذلك على خطوة أشجع عندما أنهى خدمة السير جون باغوت غلوب باشا، قائد الجيش العربي الأردني، في 2 آذار 1956، وأعفى الضباط البريطانيين كافة من مهامهم التي مُنحت لهم بموجب اتفاقية عام 1946. وتمّ كل ذلك بتنسيق بين الملك وحركة الضباط الأحرار الأردنيين. فكانت تلك بداية واعدة لعهد حسين.
لكنّ الخطوب لم تتوقف عند هذا الحد، فسرعان ما وجد الشاب نفسه حيرانَ أمام امتحان جديد وعسير. ماذا يصنع في حلف بغداد؟! إنّ رغباته تغريه، ومخاوفه تُثنيه. ومع تتالي توترات الحرب الباردة في الشرق الأوسط، في سنوات الخمسينيات، واتساع ضغوطها وتفاقمها، وجد الملك نفسه مرتبكاً من تداعيات العدوان الثلاثي على مصر في بلاده، وخائفاً من آثار انفجار حمم القومية العربية في المنطقة كلها. ثم رأى الملك نفسه مذعوراً من نشوء الجمهورية العربية المتحدة وإطباقها على مملكته الصغيرة. ثم ألفى الملك نفسه مرعوباً من مصير دامٍ كمصير ابن عمّه الملك فيصل بن غازي... هنالك أخذ حسين يلتفت من حوله، فلا يرى في حكام مصر وسوريا والعراق والسعودية إلا أعداء معلنين أو أعداء متخفّين. وقرّ الرأي عنده -وعند حاشيته- أنّ أولئك جميعاً يتربصون شرّاً به، وبعرشه.

الصعود إلى الهاوية
أدرك حسين أنّ مُلكه أحوج ما يكون إلى بناء جسور مع حلفاء أقوياء. وكان الجسر البريطاني الذي بناه أجداده ما زال قائماً وسالكاً ومتماسكاً، رغم الشروخ الجانبية التي حصلت فيه قبيل أزمة 1956 وبعدها. ولكنّ حسيناً كان يبحث عن ظهير يُغيث وقت الشدّة والبأساء، ويكون أقدر من الإنكليز الذين اختبر حدودهم، بعد حرب السويس، وما جرّته من ثورات وانقلابات في المنطقة. تلك كانت الظروف التي دفعت بحسين إلى أحضان ظَنَّها تحمي، وتُجيرُ، وتدفع. وتلك هي الفترة التي تلقّفته فيها «السي آي إيه» بحفاوة وإكرام.
ولكنّ العلاقة مع الإسرائيليين استلزمت من حسين وقتاً أكثر، ليقتنع بجدواها. وقد بدأت هذه العلاقة المباشرة بينه وبينهم أول مرة في العاصمة البريطانية، في شهر أيلول 1963. وكان المكان الذي نشأت فيه اللقاءات، ثم تطوّرت وتعددت، محلاًّ ثابتاً لم يتغيّر: 21 شارع ديفينشر بلاس. وكان هذا عنوان عمارة تتكون من ستة طوابق، في وسط مدينة لندن. وكانت العمارة تتضمن بين شققها عيادة الدكتور اليهودي الصهيوني إيمانويل هيربرت، صديق الملك الأردني وطبيبه الخاص. ثم إنّ الملك بعد أن اطمأنّ أكثر، صار يعقد لقاءاته مع الإسرائيليين، في منزل هيربرت في سانت جون وود. وكان أول من التقاهم حسين من الإسرائيليين، في عيادة هيربرت، نائب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية يعقوب هيرتسوغ. وقد أحصى الكاتب الإسرائيلي لسيرة الملك حسين، آفي شلايم، في كتابه «أسد الأردن»، 42 لقاءً جمعت حسيناً وهيرتسوغ وحدهما. وهذا عَدا اللقاءات مع مسؤولين صهاينة آخرين.

«أضمن لكم وعودي بشرفي»
في خريف 1965، ذهب الملك حسين إلى لندن ليُجري فحوصاً عامة عند الدكتور هيربرت. وأسَرَّ الملك لصديقه الطبيب أنه الآن يحب أن يرى من هم أعلى رتبة مِن يعقوب هيرتسوغ. وسريعاً ما نقل الوسيط الرغبات الملكية إلى إسرائيل. وتمت الإجابة أنّ غولدا مائير وزيرة الخارجية هي التي ستقابل الملك بنفسها. وتم الاتفاق أن يكون اللقاء، هذه المرة، في باريس.
تكفّل السفير الإسرائيلي في فرنسا والتر إيتيان، بالبحث عن مكان للاجتماع بين غولدا وحسين. فوجد شقة مناسبة في شارع رينوار في حي هاسي. وجاءت غولدا إلى الموعد يصحبها يعقوب هيرتسوغ. وجاء حسين وحدَه.
ويصف كاتبان إسرائيليان، هما يوسي ميلمان ودان رفيف، هذا اللقاء كما يلي: «عندما دخل حسين الغرفة وتقدّمت غولدا نحوه، لم يخف الملك انفعاله. تصافحا بحرارة. وتبادلا الذكريات عن الجد عبد الله. وتحدّثت الوزيرة غولدا عن انطباعاتها، ولقاءاتها المتكررة به، وعن ذكرياتها معه قبل حرب 1948، وأثناءها، وبعدها. وعبّر حسين عن حبّه الكبير لجده الراحل». وفي ذلك الاجتماع، طلب حسين من وزيرة خارجية إسرائيل أن تسانده ضد أعدائه: عبد الناصر، والتنظيمات الفلسطينية، وسوريا. وطلب أيضاً أن تساعد إسرائيل في السماح له بشراء دبابات أميركية حديثة. وتعهّد الملك بأنه لن يستخدمها مطلقاً ضد إسرائيل. وردّت غولدا: «إننا لا يمكننا الاعتماد على الوعود. نحن نحتاج منك إلى ضمانات حقيقية». عند ذلك قال الملك: «إنني مستعد لتقديم ضمان خطي لكم، وللولايات المتحدة أيضاً. وإنني أضمن وعودي لكم بشرفي».

«الملك الصغير النبيه»
سرعان ما أصبح الشريف حسين، أقرب ملوك العرب إلى قلب إسرائيل، وعقلها، وسمعها، وبصرها. وذات مرة، قال رابين لحسين مازحاً: «إنك، يا جلالة الملك، محبوبٌ في إسرائيل. ولو اخترت يوماً أن تترشح لمنصب رئيس الوزراء، فستفوز بأغلبية كبيرة». كان حسين يُلقّب في المراسلات الإسرائيلية السرية بالحروف الأولى (B.Y.K) - أي: BRAINY YOUNG KING.
ثم تطورت العلاقة بين حسين وأصدقائه أكثر فأكثر، فصارت الاجتماعات لا تتمّ في أوروبا، بل في إسرائيل نفسها. فالمسافة إلى هناك أقرب، والظروف أستر. وفي آذار 1970 تم اجتماع جديد على سفينة صواريخ تابعة للبحرية الإسرائيلية، كانت راسية في خليج العقبة. وجاء الملك ومعه اللواء زيد بن شاكر، بينما مثّل الوفد الإسرائيلي موشي دايان، وحاييم بارليف، وأبا إيبان، ويعقوب هيرتسوغ. وكانت رغبة الملك، هذه المرّة، أن تساعده إسرائيل في صراعه المرير مع المنظمات الفلسطينية. وفي ذلك الاجتماع وافق دايان أن يمنح الملك «هدية». لقد قبل الإسرائيليون أن ينسحبوا من قريتي غور الصافي وغور فيفا الأردنيتين اللتين كان الجيش الإسرائيلي قد احتلهما قبل عدة أشهر. وأحبّ حسين أن يستغل هذا الانسحاب أحسن استغلال، من أجل الدعاية لنفسه ولجيشه. فأمر جنوده أن يهجموا على القريتين، بعد خروج الإسرائيليين منها، لكي «يحرّروها من براثن العدو الصهيوني». ثم تمّ الإعلان في عمّان عن «تحرير غور الصافي، بعد اشتباك عسكري مع العدو تكبّد فيه الأخير خسائر فادحة». ثم بعد ذلك، تمّ الترويج لشائعة جديدة مفادها أنّ «سيّدنا» هو الذي قاد بنفسه النشامى في «المعركة»!
على أنّ هذه «الهدية» لم تكن أثمن ما ناله الملك من إسرائيل. ففي صباح 18 أيلول 1970، وفي خضم المعارك مع الفلسطينيين، فوجئ الملك بأرتال من الدبابات السورية تجتاح الجزء الشمالي من مملكته، للوصول إلى مدينة إربد. ويومها لم يجد حسين سوى أصدقائه المعلنين والسرّيين لنجدته. وتدخّلت إسرائيل بالفعل لنجدة حليفها العربي. وتمّ نقل لواء مدرّع كامل من الحدود المصرية إلى الجبهة الشرقية، استعداداً لأيّ طارئ، ودعماً لنظام الملك حسين. وحلّقت طائرات مقاتلة إسرائيلية فوق القوات السورية، خارقة حواجز الصوت، من أجل الردع والترهيب. وأدّى التدخّل الإسرائيلي المكشوف والواضح، إضافة إلى الخسائر الفادحة للسوريين، لانسحاب دمشق من المعركة.
وبعد أن حدث الانتصار على المقاومة الفلسطينية، التقى الملك حسين في أكتوبر 1970، إيغال آلون، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكان هو أقوى الداعمين لحسين في مجلس الوزراء، أثناء أزمة أيلول. دام ذلك اللقاء بين الرجلين ساعتين، وجرى فيه التعبير عن المشاعر. فقد تعانق حسين وآلون طويلاً كصديقين حميمين. وبارك الوزير الاسرائيلي للملك العربي انتصاره في الصراع ضد الفلسطينيين. وشكر الملك، من صميم قلبه، إسرائيل على دعمها السياسي والعسكري الذي وفّرته له.

* كاتب عربي من تونس
هوامش:
1- روى بن برادلي تفاصيل عن وقائع اللقاء الذي دار مع الرئيس كارتر في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، في الصفحات 424 و425 و426، من كتابه A Good Life: Newspapering and Other Adventures (Simon & Schuster, 1995)
2- تنامت ثروة العاهل الأردني طيلة أعوام عهده المديد. وحين توفي في شباط 1999، أورث أسرته أموالاً ضخمة، وعقارات ثمينة في أنحاء مختلفة من العالم. ووفقاً لوثائق باندورا (وهي تسريبات الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين، التي نُشرت في تشرين الأول 2021، وكشفت فساد ساسة وزعماء عدد من دول العالم)، فإنّ خليفة حسين (الملك الأردني الحالي) خبّأ 100 مليون دولار عبر سلسلة من الشركات الخارجية المسجلة في جزر فيرجن البريطانية. كما شملت ممتلكات الملك أيضاً ثلاث عقارات شاسعة متجاورة في منطقة «بوينت دوم» تقع على قمة منحدر يطل على ساحل شاطئ ماليبو في كاليفورنيا، اشتراها عبدالله مقابل 33.5 مليون دولار في آب 2014. وتكشف أوراق باندورا أيضاً أن الحاكم الأردني حصل سرّاً على محفظة من سبعة عقارات فاخرة في المملكة المتحدة، بما في ذلك ثلاثة في بلغرافيا في لندن، بين عامي 2003 و2011. وتُقدّر قيمة هذه العقارات بأكثر من 28 مليون جنيه إسترليني. هذا بالإضافة إلى عقارات أخرى في واشنطن، ولندن، وأسكوت. كما كشف تسريب من بنك «كريدي سويس» عام 2022 أنّ عبدالله يمتلك ستة حسابات سرّية في هذا البنك السويسري وحده، بما في ذلك حساب تجاوز رصيده 224 مليون دولار.
3- كشف محضر الاجتماع بين غولدا مائير والملك حسين، في 25 أيلول 1973، في مقرّ لـ«الموساد»، عن الاسم الرمزي «Lift» الذي اختاره الإسرائيليون ليطلقوه على الملك حسين. ويحمل المصطلح بالإنكليزية معانيَ كثيرة. فالمقصود به حيناً «المصعد» أو «الرافعة»، وحيناً آخر يمكن أن يُفهم المعنى على أنه «المعونة» أو «المساعدة».
4- لم يتسنَّ الكشف عن اسم الجاسوس ذي المنصب الرفيع في الجيش السوري الذي سرّب إلى مشغّليه الأردنيين الموعد المحدد لبدء الحرب في يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973. ولكن بعض التفاصيل التي رشحت تشير إلى أنه كان يحمل وقتذاك رتبة «عميد». وأمّا الضابط الأردني الذي كان يتولّى الاتصال به، فلم يكن سوى اللواء عبود السالم الذي شغل منصب مساعد مدير المخابرات العسكرية الأردني. وأمّا التاريخ الذي تلقّى فيه الأردنيون من مصدرهم السوري المعلومة الدقيقة عن ميقات الحرب، فقد كان الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو يصادف اليوم نفسه الذي أبلغت فيه القيادة السورية قادة الفرق الخمس التي تمّ حشدها في جبهة الجولان، بالميعاد السرّي الدقيق الذي اختير لشنّ المعركة. ويمكن الاستنتاج حينئذ أن الضابط ذا الموقع العسكري الرفيع، ربما يكون واحداً من خمسة عمداء شغلوا منصب قائد فرقة في القوات المسلّحة السورية، أثناء حرب تشرين.
5- كان حسين صبياً في الـ15 من عمره، عندما شاهد اغتيال جدّه الملك عبدالله، وهو ماضٍ ليصلّي الجمعة، في المسجد الأقصى بالقدس. وكان عبدالله الأوّل قد رتّب مسبقاً للقاء سرّي، بعد صلاة الجمعة، يجمعه مع اثنين من الممثّلين الإسرائيليين، هما رؤوفين شيلواه، وموشيه ساسون.
6- كان الدكتور اليهودي إيمانويل هيربرت عميلاً عتيقاً للمخابرات البريطانية. وقد أصبح صديقاً للعاهل الأردني، وطبيباً له، وهو من أوائل الذين تولّوا مهمة وصل علاقات الملك بالإسرائيليين. هاجر هيربرت في ثلاثينيات القرن الماضي من روسيا. وكان اسمه في الأصل هيرتسوغ، قبل أن يُغيّره إلى هيربرت. جنّدت المخابرات البريطانية هيربرت منذ سنوات الحرب العالمية الثانية. وكان وقتها يشتغل طبيباً لفندق كلاريدجز. وتحت هذا الستار، خالط الرجل كثيراً من المشاهير من رواد الفندق اللندني العريق، وكان أحد هؤلاء الذين أوعزت المخابرات البريطانية إلى هيربرت بالاقتراب منهم، هو الملك حسين بن طلال. وسريعاً ما توطدت الصلة بين الرجلين. وعندما حاول الطبيب أن يجسّ نبض صديقه الشاب في موضوع الاتصال بصهاينة بريطانيين، من أمثال ماركوس زيف صاحب محالّ «ماركس آند سبنسر»، وجد -لدهشته- من الملك ترحيباً. بل ووجده متصالحاً أيضاً مع فكرة اللقاء بالإسرائيليين أنفسهم، ولكن سرّاً.
7- أورد آفي شلايم في كتابه «أسد الأردن»، وهو سيرة ذاتية شبه رسمية عن الملك حسين، جدولاً يتضمّن أسماء المشاركين الإسرائيليين في اللقاءات السرّية مع العاهل الأردني، وتواريخ الاجتماعات، وأماكن انعقادها في لندن، وعمّان، وفي قافلة مكيّفة في وادي عربة، وعلى اليخت الملكي في خليج العقبة، وفي مقرّ «الموساد» شمال تل أبيب... وفي عديد الأماكن الأخرى.
8- انظر كتاب «تواطؤ عبر الأردن: قصّة العلاقات السرّية بين زعماء إسرائيل والملك حسين»، يوسي ميلمان ودان رفيف، ص: 91.