صعّدت جنوب أفريقيا موقفها المناهض للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، من خلال تمرير برلمانها قراراً (21 الجاري) اقترحه حزب «مقاتلو الحرية الاقتصادية»، وعدّله «المؤتمر الوطني الأفريقي»، يقضي بغلق السفارة الإسرائيلية في البلاد، وتعليق «جميع العلاقات الديبلوماسية» بين الجانبَين، إلى حين «الاتفاق على وقفٍ لإطلاق النار» في غزة، والتزام تل أبيب بـ»المفاوضات التي تيسّرها الأمم المتحدة» من أجل «سلام عادل ودائم». ووفق القرار، فإن الحكومة الجنوب أفريقية، مدعوّة إلى بذْل جهود في «المحكمة الجنائية الدولية»، بهدف اقتياد رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وكبار قادة حكومته، إلى التحقيق، على خلفية «انتهاكهم القانون الجنائي الدولي، وارتكابهم جرائم ضدّ الإنسانية». وجرى تمرير القرار بأغلبية 248 صوتاً مقابل 91 صوتاً، ما يدحض مزاعم الانقسام الجنوب أفريقي إزاء قضية فلسطين، وذلك بعدما تمكّن «المؤتمر الوطني الأفريقي» من حشد مجموعة كبيرة من الأحزاب الصغيرة، متباينة التوجّهات الأيديولوجية والقواعد الإثنية، خلفه. أيضاً، فإن الحيثيات التي صِيغ على أساسها القرار، كانت معبّرة عن رؤية شاملة للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومن بين وجوهه استمرار التوسّع الاستيطاني، وانتهاك «حكومة الأبارتهيد الإسرائيلية» للقانون الدولي، وسياساتها العدوانية التي تدفع إلى صعود «المقاومة المسلّحة» (كخيار شعبي)، والتي لن يتحقّق السلام في الشرق الأوسط أبداً ما دامت قائمة.
جنوب أفريقيا والتصعيد ضدّ إسرائيل
فيما يسعى الاحتلال إلى تمرير سياسات الأمر الواقع، وتجاهل الانتقادات الدولية المختلفة، معوّلاً في ذلك خصوصاً على الدعم الأميركي، فإن خطوات جنوب أفريقيا الأخيرة ضدّ إسرائيل أثارت قلق الأخيرة بالفعل، وربّما ترقّبها لمزيد من الضغوط التي يمارسها هذا البلد، إمّا المباشرة منها، أو عبر أدوات العمل الإقليمي والدولي. واتّضح القلق المشار إليه في استدعاء تل أبيب سفيرها في بريتوريا، إلياف بيلوتسركوفسكي، «للتشاور» (20 الجاري)؛ إذ لفت بيان وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى أن قرار الاستدعاء جاء على خلفية انتقادات الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، لهجمات الكيان على غزة، وبعد «بيانات جنوب أفريقيا الأخيرة (التي تدين إسرائيل)». في المقابل، وممّا يؤشّر إلى مبدئية سياسات جنوب أفريقيا إزاء الأزمة، طرْحها مسألة العدوان الإسرائيلي، ومجمل القضية الفلسطينية، في قمّة مجموعة «بريكس» الافتراضية التي نظّمتها العاصمة الجنوب أفريقية (21 الجاري)، وضمّت إلى قادة المجموعة، الدول المفترض انضمامها إليها مطلع العام المقبل (مصر، السعودية، الإمارات، الأرجنتين، إثيوبيا وإيران)، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرتش. وإذ رأس رامافوسا الاجتماع، فهو عبّر خلال فعالياته عن قلقه العميق من الوضع الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، والحاجة إلى احترام القانون الدولي (من قِبَل قوات الاحتلال)، فضلاً عن مطالبته بالتوصّل إلى اتفاق لتمرير المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بشكل كامل وفوري. ويكشف حرص بريتوريا على تفعيل كل الأدوات الإقليمية والدولية المتاحة في سبيل الدفع نحو مقاربة دولية جادّة للقضية الفلسطينية، عن إمكانية تحقيق هذه الجهود تأثيراً ملموساً لجهة تغيير الوضع الراهن، ولا سيما إذا ما جرى وضعها إلى جانب جهود الصين في السياق نفسه، على رغم التحفّظات الإسرائيلية والغربية.

جنوب أفريقيا والصين وروسيا: رؤية جنوب عالمية للأزمة؟
أكد رامافوسا، خلال قمّة «بريكس» الافتراضية، أن العقاب الجماعي للمدنيين الفلسطينيين «عبر استخدام إسرائيل غير القانوني للقوّة، جريمة حرب»، وأن منْع وصول المساعدات والمياه إلى سكان غزة «يرقى إلى الإبادة». وتجاوز رامافوسا الرؤية التقليدية لِما بعد الأزمة (في ظلّ مؤشرات ظهرت وقتها قبل إعلان الهدنة الأخيرة) بتبنّيه خيار نشر قوات للأمم المتحدة في قطاع غزة، فيما اتّسقت رؤية الرئيس الجنوب أفريقي مع التيار المتصاعد داخل بلاده، والمستند إلى تشبيه الأزمة في فلسطين بأزمة جنوب أفريقيا في مواجهة العنصرية قبل عام 1994.
لكن تعليقات الرئيسَين الصيني شي جين بينغ، والروسي فلاديمير بوتين، خلال قمّة «بريكس بلس»، جاءت أكثر تحفُّظاً، إذ اكتفى كل منهما بالدعوة إلى وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن المدنيين، فيما تفادى الزعيمان توجيه المستوى نفسه من النقد إلى أيّ من «جانبَي الصراع». وبينما طرحت بكين، عبر اتّصالات موسّعة لوزير خارجيتها، وانغ يي، مع دول عربية وإسلامية منذ ال 20 من الجاري، ولقائه وفداً من وزراء خارجية السعودية والأردن ومصر وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا، رؤية لتسوية الأزمة في غزة ومجمل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، داعيةً إلى «مؤتمر دولي للسلام» في الشرق الأوسط، فإن التقارب الصيني - الجنوب أفريقي في مجمل ملفّات الاقتصاد والتعاون ضمن «بريكس»، وفي مجال السياسات الإقليمية والدولية، تجلّى واضحاً في دعم بكين التامّ لسياسات بريتوريا تجاه الأزمة في غزة. وبالفعل، تقارب مضمونا مواقف الرئيسَين رامافوسا وشي، الذي أعلن أن «السبب الجذري للوضع الفلسطيني - الإسرائيلي هو واقع تجاهل حقّ الشعب الفلسطيني في دولة، وحقّه في الوجود، وحقّه في العودة منذ سنوات بعيدة».
تمثّل الرؤى الناشئة موقفاً «جنوب عالمي» واضحاً من شأنه أن يعيد رسم ملامح القضية الفلسطينية


وتمثّل تلك الرؤى - إجمالاً - موقفاً جنوب عالمي واضحاً، من شأنه أن يعيد رسم ملامح القضية الفلسطينية، بعيداً عن السردية الغربية والإسرائيلية التي سعت، في العقود الأخيرة، إلى قتل القضية، وتحويلها إلى مجرّد «أزمة إنسانية» طارئة من حين إلى آخر.
في المقابل، تحرص الميديا الغربية على وضع سياسات الجنوب العالمي بقيادة الصين وروسيا وجنوب أفريقيا في المسار الحالي، في سياق «انتهاز الفرص» الراهنة «لتحسين صلاتها (تلك الدول) بالعالم العربي والإسلامي».

الاستجابة الإسرائيلية: الأسوأ لم يأت بعد
لفتت الصحف الإسرائيلية الانتباه بشكل مكثّف إلى واقعة نشر عمدة سابق لمدينة جوهانسبرغ، وهو ثابيلو أماد، صورة عبر منصّة «إكس» يمسك فيها بندقية، مكتوب عليها: «نقف مع حماس»، قبل حذفها بسرعة، وسط اتهامات مجموعات مختلفة له بـ»معاداة السامية». واهتمّت الخارجية الإسرائيلية بالواقعة التي دانها الناطق باسم الأخيرة، ليور هايات، معتبراً أن «إظهار الدعم لجماعة إرهابية يثير الغثيان، إنه معاداة صرفة للسامية». ويتّضح ممّا تقدّم، تصاعُد الحساسية الإسرائيلية تجاه أيّ إشارة في جنوب أفريقيا إلى معاداة إسرائيل وسياساتها، حتى لو كانت من قِبَل مسؤولين سابقين. وتعزّز تلك المخاوفَ الإسرائيلية، الجدّيةُ الواضحة في تصرّفات بريتوريا في مواجهة الموقف الصهيوني على أكثر من مستوى (في أفريقيا أو خارجها)، والتي يدلّل عليها - على سبيل المثال - أنه وعلى رغم أن قرار البرلمان الجنوب أفريقي إيصاء الحكومة بغلق سفارة إسرائيل ليس ملزماً، لكن وقوف الحزب الحاكم بقوّة وراءه، يشير إلى احتمال مزيد من التصعيد من جانب الحكومة، وعلى نحو لم تعهده إسرائيل من دولة من دول الجنوب العالمي.
كذلك، تؤشّر التداعيات الحالية في العلاقات الجنوب أفريقية - الإسرائيلية، إلى أن مرحلة ما بعد الحرب في غزة ستشهد مزيداً من التراجع في مستويات هذه العلاقات، وربما توسّع إلى «حرب باردة» بين البلدين، مع اصطفاف جنوب أفريقيا خلف الصين وروسيا ورؤيتهما المشتركة لمستقبل «النظام العالمي»، في مقابل استمرار تمتّع إسرائيل بدعم أميركي وغربي مستدام، يُراد أن يعوّضها تراجعها الإقليمي المرتقب في الشرق الأوسط.