لندن | رفض قاضٍ في المحكمة الملكية البريطانية العليا، الأسبوع الماضي، طلبات من فريق الدفاع القانوني عن مؤسّس «ويكيليكس»، جوليان أسانج، لوقف تسليمه إلى الولايات المتحدة، وفق مذكّرة استرداد تقدَّم بها ممثلون قانونيون عن الدولة العظمى. ويزيل الرفض الذي أعلنه جوناثان سويفت، القاضي المعروف بعلاقاته الوثيقة مع وكالات الأمن والاستخبارات البريطانية، آخر خيارات التقاضي القانوني لوقف أمر تسليم أسانج إلى الأميركيين، والذي كانت وقّعت على تنفيذه بريتي باتيل، وزيرة الداخلية في حكومة بوريس جونسون، في حزيران من العام الماضي. وقد تقدّم محامو أسانج بطلب نهائي لاستئناف القرار الأخير، الذي سيعني، في حال قبوله، انتقال القضيّة إلى جلسة علنية أمام قاضيَين جديدَين لدى المحكمة الملكية العليا؛ وفي حال الرفض، يمكن أسانج أن يجد نفيه بين أيدي سجّانيه الأميركيين في غضون أقلّ من 24 ساعة، حيث سيُنقل مخفوراً إلى الولايات المتحدة ليواجه 18 تهمة تقع جميعها تحت «قانون التجسّس»، وتصل عقوبتها، في حال إدانته، إلى السجن لمدّة 175 عاماً. ووفق متابعين لإجراءات اعتقال مؤسّس «ويكيليكس»، فإن السلطات البريطانية حريصة على إتمام عملية التسليم فور إزالة العقبات القانونية، وذلك لتجنّب الإحراج الذي قد تتعرّض له لندن إذا أصدرت «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» قراراً بمنع التسليم. ويحقّ لأسانج، في حال رفض المحكمة البريطانية العليا التماسه لاستئناف قرار القاضي سويفت، التقدّم بطلب عاجل لمنع التسليم لدى المحكمة الأوروبية التي يعارض المجلس المنبثقة عنه بشدة «احتجاز جوليان وتسليمه ومحاكمته» لأنه يمثّل «سابقة خطيرة بحقّ الصحافة والصحافيين». وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية ملزمة قانونياً - وفق الاتفاقات ذات العلاقة - بالخضوع لقرارات المحكمة الأوروبية.وفي حال سريان أمر التسليم، الذي يمكن أن يتمّ في بداية الأسبوع الجاري، سيمثل أسانج أمام محكمة ابتدائية أميركية في ولاية فرجينيا، حيث يفوز المدّعي العام الأميركي عادةً بمعظم قضايا التجسّس. وقد تعهّدت السلطات الأميركية، لبريطانيا، بعدم تعريض أسانج لسوء المعاملة الذي تشتهر به سجونها، وذلك بعدما رفضت محكمة ويسمنستر الابتدائية طلب التسليم الأميركي «بسبب قسوة ظروف الاعتقال في السجون الأميركية، والتي لن تمنع السيد أسانج من إيجاد طريقة للانتحار»، وأمرت بإطلاق سراحه، قبل أن يعمد محامو الجانب الأميركي لتقديم استئناف قبِلته المحكمة البريطانية، تضمّن «تأكيدات» بعدم احتجازه في سجن «إي دي إكس» في فلورنسا في ولاية كولورادو - الذي يخضع لإجراءات أمنية مشدّدة قصوى -، وأن يتاح له - في حال إدانته - أن يقضي عقوبته في أستراليا إذا طلبت حكومة كانبيرا ذلك. لكن هذه التأكيدات لا تستحقّ حتى قيمة الورق الذي كُتبت عليه، إذ إن المحاكم في الولايات المتحدة تَقبل ما يُعرف بـ«الأدلّة السرّية» (تقارير الاستخبارات الأميركية)، وتعتدّ بها قانونيّاً، فيما لا يوجد في البلاد العديد من السجون التي تتمتّع بإجراءات مشدّدة، سوى سجن كولورادو. وليس في تلك «التأكيدات» المزعومة ما هو ملزم قانونياً، بل يمكن دائماً لسلطات السجن الأميركية تطبيق أيّ إجراءات تراها مناسبة، في حال لم يلتزم أسانج بتعليماتها، فيما قد يستغرق أيّ طلب للاستئناف أمام المحاكم الأميركية عقداً أو عقدان من الزمن، قبل البتّ به بشكل حاسم، وهو وقت كافٍ لدفع أسانج إلى الانتحار، أو تدبير حادث عرضي ينهي حياته. ولم يتسنّ التّيقن بعد من أنباء تحدّثت عن أن الولايات المتحدة جهّزت بالفعل طائرة خاصّة لنقل الصحافي الأسترالي من لندن إلى الجانب الآخر من الأطلسي، معدّة للإقلاع في أيّ وقت.
العراق يتحوّل إلى جزء من الحلّ في المنطقة بعد أن كان جزءاً من المشكلة


عمليّة تسليم جوليان أسانج - إذا تمّت - ستكون تتويجاً لمطاردة قاسية قادتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وتواطأت فيها، إلى جانب أعلى المستويات في النظام الأميركي، حكومات بريطانيا والسويد وأستراليا وإسبانيا والإكوادور، على مدى 13 عاماً، منذ قرار «ويكيليكس» نشْر عشرات آلاف الوثائق الرسمية الأميركية التي مثّلت أكبر إدانة موثّقة للأساليب الإجرامية التي تتبعها نخبة واشنطن في فرض هيمنتها على العالم. ومن جهتها أيضاً، وقفت صحافة العالم في أغلبيتها الساحقة موقف المتفرّج من هذه المطاردة، بل إن صحفاً مثل «غارديان» البريطانية ساعدت في تقديم معلومات لتوجيه الاتهام إلى أسانج، بعدما سرّبت للاستخبارات الأميركية الأكواد السريّة التي شاركها معها «ويكيليكس» لنشر بعض تلك الوثائق. ومن شأن إدانة أسانج بالتّهم التي فصّلتها حكومة الولايات المتحدة تحت عنوان «مكافحة التجسّس»، أن تصبح بمثابة سوابق قانونيّة تجاه أيّ محاولة لفضح ممارسات إجرامية ترتكبها نخبتها الحاكمة حتى وإن قام بها مواطنون غير أميركيين، وفي أيّ مكان في العالم.
ويتوازى هذا التواطؤ من قبل السلطات التنفيذية والقضائية والإعلامية في الغرب ضدّ أسانج مع تجاهل شعبي مخجل، إذ لم تنجح محاولات حشد محتجّين ضدّ أسره على أيدي السلطات البريطانية، في جلب أكثر من عدّة عشرات في أحسن الأحوال. وانتهت نداءات زوجته البريطانية الجنسية وأولادهما القصّر بلمّ شمل العائلة، إلى أذن صمّاء في أعلى مراتب السلطة البريطانية، فيما ظهرت الحكومات الأسترالية المتعاقبة بين اليمين واليسار على حقيقتها كمجرّد تشكيل عصابي خاضع بكليته للرغبات الأميركية، وغير قادر على تقديم أدنى مستويات الحماية لحامل جواز السفر الأسترالي. وارتكبت السلطات الإكوادورية في عهد الرئيس السابق، لينين مورينو، انتهاكات فظيعة بمقاييس القانون الدولي، عندما أَسقطت الجنسية الإكوادورية التي حصل عليها أسانج بصفة قانونية، وسمحت للشرطة البريطانية بدخول حرم السفارة في لندن - حيث كان أسانج يقيم كلاجئ سياسيّ منذ عدّة سنوات - وسهّلت عملية أسره.