لا تزال البلاد ترزح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والنقدية، إلا أنّ المستجدّ هذه الأيام هو التفلّت الأمني المتزايد في ظل غياب شبه كامل لحجرَي الأساس لقوى إنفاذ القانون المتمثلَين بالقوى الأمنية والقضاء، ما يدعو إلى ضرورة يقظة المعنيين والمسؤولين السياسيين من سباتهم العميق والالتفات إلى هذه المسألة، لا سيّما أن اللبنانيين قد بدأوا بالتكيّف مع غياب الدولة والتفاعل مع هذه الفكرة على نحو سلبيّ.يخفي اللبنانيون اقتناعهم بأن غياب الحماية الاجتماعية المتمثلة بالاستشفاء والطبابة هو مسألة مسلّم بها، ويرضون بغيابها من دون أدنى تحرّك، وهو أمر يدلّ على مرض خفيّ يعجز العلماء عن تقصّي أسبابه. ولكن، عندما يشعر اللبناني بأنه معرّض للاعتداء الجسدي أو الافتِئات على ماله أو على عائلته، فإن هذا ما سيفقده صوابه بلا شك.


اقتناع اللبنانيين بغياب الدولة يعني حكماً لجوؤهم إلى تأمين حاجاتهم الأساسية بشكل مباشر بمعزل عنها، لكن مسألة الأمن الذاتي خطرة لسبب بسيط يتعلق بسيادة الدولة وتحلّلها الفعلي.
فلجوء المواطن إلى تحصيل حقّه بيده، كما رأينا في أكثر من مناسبة، أمر يستدعي التدخل عاجلًا لمعالجة أمرين: الأوّل، هو الآثار المباشرة لغياب الدولة، أي منع مظاهر الأمن الذاتي. والثاني، هو أن يشعر المواطنون فعلاً بوجود الدولة التي لا يشعر الناس بوجودها إلا بفرض القوانين، وإلزام المواطنين بتنفيذ هذه القوانين.
لو افترضنا مثلاً أن مواطناً سُلبت سيارته وهو يعلم مكانها، فإذا حاول الاتصال بقوى الأمن الداخلي لن يتمكن هؤلاء من القيام بواجباتهم لأسباب عدة، أولها عدم وجود المعدّات اللوجستية والعملانية للقيام بمهماتها، وأبسطها عدم توافر الكهرباء في مراكز قوى الأمن أو عدم توافر محروقات لسياراتهم، أو غياب العناصر لعملهم في أمكنة أخرى بهدف تأمين لقمة العيش لأولادهم في ظل تدنّي الرواتب إلى ما لا يمكن أن يطيقه بشر.
قد يكون المواطن أمام خيارين، إمّا أن يرضى بخسارة ملكه وبالعجز المطلق أو أن يقتنع بأن إمكانية استعادة ملكه ستكون عبر الاستعانة بمسلحين، أو بـ«زعران» الحيّ أو حتى بأوادمه المسلّحين، لا فرق، ولكن إذا كان المسلوب إنساناً مخطوفاً، ابناً أو والداً أو أخاً، ماذا تراه يفعل؟ هنا لا يعود للمنطق أو للمبادئ أي اعتبار.
قد يكون من المناسب فعلاً تشديد العقوبات المترافق مع تطبيق القانون وأن يلقى الجاني، أيّ جانٍ، العقوبة المناسبة وفق معايير العدالة المتعارف عليها في المجتمع، وأن يرتدع عن تكرار الجرم، وألّا يسود منطق استسهال الجرم في ظل غياب الردع والعقوبة.
إن معرفة القوي بأنه أقوى من الدولة، ويقين المقتدر مالياً اقتداره على تأمينه حمايته لنفسه ولعائلته، هو أخطر ما يكون، أن تنتقل البلاد من مرحلة المجتمع المنظّم إلى مرحلة المجتمع الهمجي المتوحّش.
إن القضايا التي تعترض اللبنانيين في نهاراتهم البائسة تراوح بين تأمين لقمة العيش وتأمين الحماية الجسدية لهم ولعائلاتهم، وكلاهما خطيران.
لا يمكن نهائياً التسليم بفكرة مفادها إمكانية تعوّد اللبنانيين على غياب الدولة وأمنها وقضائها. فالمسألة تتجاوز الاحتياجات الأساسية لتصل إلى الاحتياجات الخطرة التي تهدد بنية المجتمع ككل.
غياب العدالة أو القلق المستمر من حصول اعتداء لا رادع له، يُعدّان من أخطر الحالات الاجتماعية التي قد تواجه أيّ مواطن أو حتى أيّ مقيم. سيدفع المرء إلى شيء يشبه الجنون أو اتخاذ تصرفات وقرارات غير مبررة، والأخطر من ذلك كله أن الناس باتوا يُشعرون المواطن الذي يؤمن بالدولة أنه في غير مكانه الطبيعي.
الأمر في غاية الخطورة ولا يستدعي أيّ تأخير، فقد نهوي أكثر في قعر من الفوضى.