بيروت ليست كأيّ شيء، مدينة جليلة وإنْ كانت محاصرة، طليقة في قلب الحصار ومحاصرة أبداً في حُريّتها. خلال ظهيرة حاسمة في يوم حصار دموي، لا يوم حرية كما وعدتنا مفردات الثورة على لسان درويش وعلي فودة وخليل حاوي ولهيب البنادق المثلج الساخن، يوم برطوبة نادرة الخصوبة وبعض غيم في السماء، اندلع في أتونها الدم والدمار، وكعادة التاريخ، تنتشر البطولة وريحُ الخيانة أيضاً في آن معاً!
كان الوقت يبدأ من الفاكهاني وصبرا ومن ذاكرة تل الزعتر المسحوق، اليوم في حزيران هذا بدأ الوقت من جهة السماء والبحر، وها هم الشهداء كالأبنية يسقطون مبتسمين كما لو أن بيروت أخرى تنتظرهم في العالم الآخر على شرفات النوافذ الحالمة وخلف أبواب الألم. كنا هناك، مقاتلون، لبنانيون وفلسطينيون يجترعون كأس الحرية كل صباح، فيسكرون بالبرق والفكرة حتى الثمالة، يرتلون الأغنيات ثم يطلقون الرصاص باتجاه البحر، فيندلع الدمار، وتزهو الصرخات الوليدة من حناجر الأمهات بالزغاريد، لتعلن عن شهيد جديد وعن حكمة قادمة نائمة هي الآن في سرير الأفق.
بنادق عادية تكاد لا تنفع لاصطياد عصفور تجابه البوارج الحربية والطائرات وسكاكين الإخوة الأعداء، المتأهبين لاصطياد العظم في ظهر الأمل مقابل وهم اللاشيء الرابض في جوف العتمة، لكأنَّ العتمَ غايةُ المتدربين على السراب، ذاك السراب الذي يشي بالبدايات الفاجعة ولكنه لا ينتهي أبداً.
أقول لصاحبي في المتراس قرب البحر: من دلّك على كل هذه الأدلّة الدامغة التي تثبت بأننا منتصرون على كتل الحديد الهائلة التي تقضم عباب السماء فوق الغيوم، أو تسير في بحر بيروت المكابر مثل وحش أعرج؟ فيجيب بأنْ يرفع فوهة البندقية، يهزّها كأنما يكتشف غصنَ زيتون جديداً فتندلع البطولة في حفيف الشجر، وهو يتضرّج بالشظايا، وعلى وجهه أمارات الحلم المدمى، فأصرخ عالياً ليسقط السقوط لا أنت، وأمدّ بندقيتي الصغيرة كي ألتقط طائرة حربية تم صكّ طرازها للتوّ في أحدث معامل القتلة ومرَّت من أجواء الأصدقاء لِتعضَّ كبدَ طفل في صبرا أو تحطّم ظهر طفلة في الفاكهاني، حتى باتت تلك البدايات كتلة واحدة من الخوف والصمود وربما الشجاعة.
أيتها البارجة الكبيرة، اقصفي هنا. لا بأس إن كان على موقعنا وشقة القيادة، لكن، لا تُجبري الأطفال على النوم تحت تراب المقبرة وخلف الزهور اليانعة، تلك انتباهات الحالة وصهوة الاستثناء من صُراخات الاستغاثة الإنسانية الفاضحة لمستويات شهوة القتل والإبادة، هي إبادة منظمة لا تفكُّ عُراها البنادقُ البسيطة. رؤوس الأصابع تضغط على الزناد، تنتفي قدرة الأسلحة على اجترار الوقت والذهاب نحو أحجية أخرى ترفع ستارة الليل عن ليله، فلا ضير في أن يصحو المرءُ على استشهاد ذاته مقابل ديمومة الفكرة، الفكرة التي شربناها في حليب الأونروا في مخيم اليرموك البعيد.
لم نكن لنصدق الصحافة التي تنقل أحاديث شارون وبيغن أو ابتسامات عملائهم في لبنان التي تشي وتشير إلى قرب ساعة الاجتياح، اعتقاداً بأن غابة البنادق التي نمتلكها ورشاشات المضادات الأرضية المنسقة منذ الحرب العالمية سوف تردّهم وتمنعهم من تنفيذ الوعيد، ظننّا لبساطتنا وسذاجتنا، بأن ذلك لن يحدث فهم لن يُقدموا على الاجتياح. وعلى الرغم من ذلك، قررت القيادة تحصين المواقع بأكياس ترابية سوف تكون ساتراً لمواجهة حِمم أعتى وأحدث الطائرات في العالم، العالم الذي قرر منذ ولادة أيلول الأردن، ألّا تكون هناك بؤرة ثورة عربية تتوق إلى الحرية والحياة، وألا تتعاظم شخصية الثائر وتشعّ فتكون بيروت مثل هانوي، كانوا قد مهّدوا لذلك منذ حين، بتخريب ثقافتنا كمقاتلين، وبخاصة في هذه المدينة ذات الأضواء الليلية وسيقان الفتيات المصقولة كسيقان أفروديت.
تم تبديل المواقع في الجبال والقلاع، وفي خفايا بيارات البرتقال في الجنوب، وبقيت إرادة القتال حاضرة وتنتظر وصول الجنود الجبناء الذين سوف نطردهم من لبنان رداً على طرد آبائنا من هواء فلسطين، ونُبقي في ضيافتنا مجموعات من الأسرى لنطلق المعتقلين والأسرى من داخل الوطن، كنا سعداء لفكرة قدومهم، أما في بيروت فلم يتبدل الكثير، بقي الفدائيون الفلسطينيون واللبنانيون في مواقعهم، في الشقق المفروشة المليئة بالمؤونة تحت الأسِرَّة المعدنية والفنادق وتم توزيع الذخائر بكثرة لا توصف حتى ظننّا بأنها سوف تكفي لهزيمة كل جيوش العالم دفعة واحدة إن هي تجرأت على القدوم حيث ننتظر...
بدأ القصف في الجنوب وردت المقاومة بقصف المستوطنات في شمال فلسطين، ها هي الحمم الرهيبة تهبط من السماء، البوارج الحربية تصدر صوتاً يجعل الأطفال شيباً، وعنتريات القيادة تعيد لهم سواد شعرهم، ونحن ننتظر المواجهة ولا نكترث للأحد الدامي ولا للأربعاء.
قاتلنا كعمالقة أسطوريين، شجاعة لا وردت في الكتب ولا حتى في الأساطير الكاذبة، لذا لم نودع حبيباتنا استعداداً للخروج المقبل، الذي لم نكن نراه سوى محض تكرار للحرب النفسية التي حبكها أذكياء العصابات الإرهابية وأنظمة العرب عام 1948 حين سقطت المدن قبل أن تدخلها جدائل أي غريب.
بعناية ودقة، ضُربت مواقع الجنوب، واشتعلت المدينة الرياضية وخلدة ومأوى العجزة في صبرا، فرحنا لأنهم قادمون إلى الموت الحتمي هنا على تخوم بيروت الغربية التي يحدّها من الشرق عملاء العدو ومن البحر الماء ومن الجبل الاستكانة، ومن جنوبها الجنوب الذي انفرط عقده سريعاً كسبحة شيخ ضرير.
قاتلنا في بيروت بشجاعة، وأهل بيروت يقدّمون كل دعم ممكن لنا، وهم يرون أبناءهم يتساقطون معنا بالصواريخ والشظايا، يصمتون على الدم افتداءً للكرامة. أما مخيمات بيروت فترحّب بسواعدنا السمراء وشعورنا الطويلة وانتشارنا كالنحل على طبق عسل بيروت في الروشة والمنارة والحدت والسوديكو، ها هنّ يزغردن للشهداء المساكين، ويتوسّلن لنا عدم الخروج بعد سقوط الجنوب باستثناء قلعة الشقيف وسقوف الزينكو الرقيقة في المخيمات والقرى التي شاركت كلها في العويل والشجاعة والتوسل بألّا نتهاون ونسمح بتقدم قوات العملاء ممّن كانوا يسمّون «جيش لبنان الجنوبي»، وبخاصة بعدما درجت إشاعة ذكية مخادعة تقول بأن قوات النازية الصهيونية سوف تصل فقط إلى نهر الأولي لتأمين سلامة مستوطنات شمال فلسطين من صواريخ الثوار، لكن السياسة كعادتها كان لها رأي آخر.
قلت لرفيقي ونحن نطلق الرصاص على محور «الحدت» وبعض قذائف الكتف المضادة للدروع، إنهم يصبّون كل هذه الحمم تعبيراً عن خوفهم من لقائنا مباشرة، وهو ما كنا ننتظره بشغف، فردّ بأن للسياسة رأياً آخر، فالعرب والغرب والشرق قد اتخذوا قراراً واحداً، مضمونه سحق المقاومة اللبنانية والفلسطينية بعد سنوات من ترويض شخصية الفدائي وتخريب مفرداتها، وهكذا جاءت طلقة من الخلف، من داخل بيروت... صمت رفيقي.. ظننته نام من التعب... لكن النوم عادةً لا يجعل الأرض تحته مليئة بالدم، غطّيت وجهه بالصراخ والوعيد بأن أنتقم، وسحبت محبس خطبته من بنصره لأقدّمه دليلاً على استشهاده.
سقطت بيروت باتفاق دولي، لا بتراجعنا، لقد انتصرت السياسة مرة أخرى وهزمنا نحن الأبطال الأغبياء، مجدداً كما حدث في نكبة فلسطين، مرة أخرى انطوت صفحة من مستقبل العرب، لقد هُزمت روح الشعب وانتصرت السياسة!