أشياء كثيرة في المخيم لجأت مع اللاجئين. لم تكن لمرة واحدة، بل تنقّلت من لجوء إلى آخر. شعرَ اللاجئ الروائي محمود الهاشم أنه محاط بذكريات يجب أن يأخذها معه أينما حلّ، من تهجير أول كبير إلى تهجيرات صغرى أتت على شكل «ضربات» قضت على المخيمات. كل شيء هنا يجعلك تتأكد أن القصص تنتقل مع أهلها أنّى رحلوا، ولا تُدفن مع ضحايا المجازر أو الأموات. هي صور لجوء تعددت أشكالها، من صرر محمولة على الأكتاف للاجئين أتوا إلى أراضٍ مجاورة لأرضهم فلسطين، وصولاً إلى مشاهد الهروب من مخيم أقيم مؤقتاً لحمايتهم. تمسّكوا بصور وآثار الحرب، التي جرّبوا أن لا يتكلموا بها أمام حديث البنادق. مالكو المشاهد يتحدثون، وحتى من استفاق على صوت دبابة، ولم يفهم ما جرى، كتب قصته داخلياً. خيّمت على بيروت التي احتضنت الفلسطينيين في كل مكان قبل أكثر من 40 عاماً، وفي صيف 1982، أصوات الدبابات والبوارج الحربية الإسرائيلية، ودكّت العاصمة بالصواريخ، ودمّرتها أثناء حصارها. في هذه الأثناء كان التاريخ يسجل معارك من نوع آخر. معارك داخلية لنساء ورجال وأطفال حملوا معهم أصوات الحرب ومشاهدها. ومع دخول الإسرائيلي للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، كانت حرباً موازية اشتعلت في نفوس من عاشوا في هذه المدينة.

صوت من نجا
لم يعرف أحد كيف ينجو. كيف تضيق الأرض بأهلها، أو كيف تتحوّل النجاة إلى مجرد صدفة؟ أن تكون في «الحمرا» مثلاً بدل أن تكون في المدينة الرياضية. كان ذلك ضرباً من ضروب الصدفة، ينجيك من مجزرة قضت بصمت على الراحلين من أرضهم الأولى. بيروت العاصمة الضيقة أصبح الفرار من الموت المحتم فيها لا يتجاوز سوى بضع دقائق. يروي أحد القادة الميدانيين الفلسطينيين في تلك الفترة، علي الرفاعي (أبو عماد)، قصته بدقة متناهية. هي حاضرة بكل تفاصيلها، صوت طائرة في الصباح «استغربنا صوت الطائرات، المطار كان مقفلاً، شعرنا حينها أن الشر آت إلينا». كان فندق «الكومودور» في «الحمرا» مكان تجمّع الصحافيين ومصدراً مهماً للمعلومات، إذ كان يوفّر سبل الاتصال، ويجمع الصحافيين من الوكالات الأجنبية. شاهد أبو عماد صحافيين آسيويين حينها، وهو يذكر بشدة ملامح وجهيهما وهما يتهامسان بالإنكليزية عن نبأ مجزرة قرب المدينة الرياضية. أدرك أنه المخيم. دلّهما على الطريق، ووصل إلى الجثث المرمية على الأرض: «الجثث كانت برا المخيم». لا تزال ذاكرته حاضرة فهذه المشاهد مرت على شاب يبلغ من العمر 25 عاماً. يضيف أبو عماد: «الصورة التي شاهدتها لكومة من الجثث مع أطراف مقطّعة، وجدتها لاحقاً في الوكالات الأجنبية». كان الناس «يخرجون أفواجاً من المخيم». الموت «صامت» من دون أصوات آليات كبيرة، ذُبح البشر على أنوار القذائف المنيرة. المدينة احترقت وأحرق أهالي المخيم معها جزءاً من ذاكرتهم، الكثير من الوثائق فُقدت في تلك الفترة، فمهمة أبو عماد يومها كانت «نقل الأرشيف الخاص بالمنتسبين إلى الجبهة الديموقراطية كي لا يصل إلى الأيدي الإسرائيلية»، ولأن نقلها لم يكن سهلاً، «فأحرقناها».

اجتياح بيروت: أيام العز للمقاومة؟
رغم المشاهد الدموية في تلك الفترة، إلا أنها من أفضل الفترات بالنسبة إلى المقاومة الفلسطينية في الداخل بحسب مسؤول التقديمات الصحية في «الجبهة الشعبية» حينها، كمال فياض، تهريب السلاح إلى الداخل الفلسطيني كان يتم بطريقة أسهل من اليوم. تشاركه ورد (اسم مستعار) بهذه النظرة، إذ تنقل تجربتها «أيام الاجتياح». فهي ابنة عائلة خرجت من فلسطين في النكبة. وقرّرت العودة لزيارة البلاد مع عمها الذي كان يملك تصريحاً للدخول. دخلت لأربع مرات متتالية «تهريباً» وحصلت أخيراً على تصريح لتعيش «أجمل شهر في حياتها» في عكا. غريب كيف يمكن لتلك المشاعر أن تكون مختلطة مع مشاهد الموت اليومية.
تختلف الآراء ونظرة الفلسطيني الفرد إلى خروج منظمة التحرير محمّلة على البواخر من لبنان. خروج «المنتصرين» كما يقول أبو عماد. خرجوا بالسلاح وبكل ما يملكون، لم تكن هزيمة «فوضوية». كل ما حصل كان رائعاً سوى مشاهد الدم في صبرا وشاتيلا. أمّا الكاتب الروائي محمود الهاشم، الملقّب بـ «الحنون»، فيرى ذلك هزيمة متكاملة الأوصاف، أرادها العرب لبيروت قبل الفلسطينيين، «وهو ما يفسر المسار السياسي الذي أوصل منظمة التحرير إلى شكلها الحالي». كانت الطائرات تحجب السماء، وكادت تلامس أكتافنا. خرج أبو عمّار وأعطانا «انتصارات مزيفة».

نساء محاربات
أمّا النساء في تلك المرحلة، فعلى عكس ما هو مشاع فقد انحصرت مهماتهنّ في أدوار الطبيبة ووالدة الشهداء. فعلى الرغم من أهمية هاتين الوظيفتين، إلا أن المرأة الفلسطينية قاتلت على الجبهات الأمامية في المخيمات. ترينا حليمة من مخيم برج البراجنة مشاهد لها مع تلفزيون فرنسي. سألتها الصحافية هل الوضع مناسب لمشاركة النساء، فجاء الرد سريعاً: «الوضع غير مناسب لمشاركة أي أحد»، لكن ما تفرضه الظروف «سنقوم به كشعب كامل». القذائف التي تأتينا لا تميّز بين امرأة أو رجل أو طفل، «لن تكشف عن جنسنا قبل النزول علينا». لا يمكن القول إنّ مشاركة النساء لافتة في تلك الفترة، بل هي أساسية، وردّة فعل طبيعية لتلك الأحداث. أمّا سعاد، التي لم تعرف استخدام السلاح، فلم تترك الجبهة أيضاً، وضعت الرمل في أكياس التحصين، وطبخت لزميلاتها: «رغم كل شي كنا نحس إنو نحن ولاد الأرض».
تحتفظ هؤلاء النسوة بالمشاهد الأرشيفية لمخيم برج البراجنة في تلك الفترة. المخيم دُمّر بالطائرات على عكس مخيم شاتيلا الذي دخلته القوات الإسرائيلية. تقول «ورد» إنّ الأمور في تلك الفترة واضحة لا لبس فيها، دافع الفلسطيني عن المخيم أكثر من دفاعه أيام النكبة. فالمقارنة هنا جائزة، في الاجتياح كان يعرف الفلسطيني ماذا يحدث، ومن هو عدوّه على عكس النكبة التي خرج حينها أهالي بعض البلدات معتقدين أنهم سيعودون خلال أيام قليلة. سواتر الرمل ارتفعت بأيدٍ نسائية في هذا المخيم، كما ارتفع إيقاع تدفق الدم في عروق الجرحى مع الممرضات، وسُخنت المخابز بأرغفة الخبز لإطعام المقاتلين.