«قالوا إن الزعتر لا ينبت إلا فوق التل... وتحت التل واسأل عنه الريح تندلإن الزعتر يختصر الزمن فينبت في الماضي والحاضر والمستقبل
إن الزعتر يمحي كل حدود الأرض فينبت في الماء والصحراء
وعرفت لماذا رائحة الزعتر أقوى من كل روائح هذا العصر المتخن في الليل» (1)

(ضياء العزاوي)

في منطقة صناعية في الشمال الشرقي من مدينة بيروت، تأسس مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين عام 1950، وبعد سنوات قليلة تأسس إلى جانبه مخيم جسر الباشا، لتصبح المخيمات المحيطة في بيروت، هي مخيم تل الزعتر، وجسر الباشا، وبرج البراجنة، وشاتيلا. نشأ «تل الزعتر» و«جسر الباشا» في منطقة صناعية تمثل ثقل المعامل والمصانع في بيروت، حيث كانت المنطقة تضم، إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين، طبقة عاملة لبنانية التي في معظمها كانت قادمة للعمل في ظروف قاسية من الجنوب اللبناني. عمل سكان المخيمات في المصانع القريبة في ظروف بالغة الصعوبة إلى جانب العمّال اللبنانيين، وهذا ما شكّل أساس التناقض بين سكان المنطقة الفقيرة المعدمة وملاك هذه المصانع ومحيطها فيما بعد. بعد عقدين من الزمن في بداية السبعينيات، بلغ عدد سكان المنطقة 25 ألف نسمة نصفهم فلسطينيون والنصف الآخر من اللبنانيين وفي معظمهم عمّال في المنطقة المجاورة (2).
في 13 نيسان 1975، وبذريعة تعرّض بيار الجميل زعيم حزب «الكتائب» لمحاولة اغتيال، قامت مجموعة مسلحة تابعة لـ «الكتائب» بارتكاب مجزرة مروعة بحق 27 فلسطينياً في طريق عودتهم إلى مخيم تل الزعتر من احتفال أقيم في مخيم شاتيلا غرب المدينة، وسيعرف فيما بعد هذا الحدث، بـ «بوسطة عين الرمانة». سيشكّل فاصلاً في تاريخ لبنان المعاصر، حيث سيصير هناك ما قبل البوسطة وما بعدها، لمركزية هذا اليوم، الذي أعلنت فيه «الكتائب» وما تمثّله من قوى يمين رجعي من خلال مجزرة ضد مدنيين، بدء حرب محو وإلغاء مستمدة من العقيدة الصهيونية القائمة على الإبادة، ضد الوجود الفلسطيني في لبنان وضد القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الشعب الفلسطيني.
وكان مخيم تل الزعتر وجسر الباشا والنبعة نقطة انطلاق لهذه الخطة الفاشية، لوجودها في المنطقة الشرقية من بيروت التي تعتبر منطقة خاضعة بالقوة العسكرية لليمين اللبناني (3). بعد أحداث بوسطة عين الرمانة لم يكن بمقدور القوى الفاشية الهجوم عسكرياً على المنطقة التي مثّلت موقعاً متقدّماً للمقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية رغم رغبتها في ذلك، فاكتفت بالحصار وبقطع الطرق وبمنع دخول المواد الغذائية والطبية والعسكرية ومنع تنقّل السكان. وبعد عام من الحصار والتجويع، وحين تبدّلت موازين القوى بانشقاق الجيش اللبناني وانضمام قسم كبير منه إلى القوات اللبنانية بما يملكه من جنود مدربين وآليات ومدرعات ودبابات وأسلحة مدفعية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصول تناقض دامٍ بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السوري، والذي سيسفر عنه تحالف النظام السوري مع اليمين اللبناني. هذه العوامل كانت كفيلة ببدء الهجوم الإرهابي (4).
هذا الصمود الذي شكّل المادة الخام والدرس الأوّل لصمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى يومنا هذا


في صباح 17 حزيران 1976، بدأت القوات الفاشية هجومها على تل الزعتر، في هذا اليوم سقط على المخيم ما يزيد عن 8000 قذيفة كانت كفيلة بهدم أو تخريب مجمل منازل المخيم المكوّنة من الطوب والصفيح، وقطع الكهرباء والماء والطرق وقتل وجرح مئات الضحايا من المدنيين العزّل. اعتمدت القوات المهاجمة، منذ اليوم الأول، على كثافة النيران وإلحاق خسائر مادية وبشرية كثيرة، فالهدف الأساسي من الهجوم كان الإبادة للمخيم وساكنيه، وإظهار كل الحقد والعنصرية والوحشية التي في قلبهم تجاه السكان، عبر القتل بشتّى الطرق والتنكيل والتمثيل بالجثث وباستخدام طرق بشعة والتركيز على استهداف المدنيين. تذكر إحدى الناجيات من مجزرة تل الزعتر، وهي فاطمة فرج سعيد، كيف أن القوات الغازية تعمّدت استهداف المدنيين وارتكاب المجازر واستهداف الملاجىء. وتذكر أنه في منطقة «غاليري متى» كان هناك ملجآن، تسلّلت قوة من «الكتائب» إليهما وقامت بإبادة كاملة لكل مَن فيهما. واحد من الملاجىء كان فيه 75 شخصاً، أطفال ونساء وشيوخ ورجال، تم اقتحامه وإبادة كل من فيه بأبشع الطرق، بالرصاص والمتفجرات والبلطات والفؤوس! ومن ثم قاموا بسرقة الممتلكات، الأموال، ساعات اليد والذهب (5). وتذكر فتاة أخرى من مخيم جسر الباشا مشاهد القتل والإعدامات والاغتصاب والسرقة، حيث رأت أمّها تقتل أمامها، وأختها كاد يتم اغتصابها. استمرت هذه المشاهد الدموية لأكثر من 53 يوماً من الصمود الأسطوري للأهالي والمقاتلين أمام آلة الإبادة التي قتلت ما يزيد عن 3000 إنسان خلال هذه الأيام (6). ومن المهم أن نتساءل هنا، كيف استطاع المخيم الصمود؟
منذ اليوم الأول من الهجوم الكثيف على المخيم المحاصر، أدرك سكان المخيم أن الصمود والدفاع عن المخيم والقتال حتى الموت هو أفضل الخيارات، فكل مشاهد التنكيل كانت ترشدهم لذلك، ولو كان هناك سبيل لتدخّل منظمة التحرير وفك الحصار الممتد منذ أكثر من عام لحصل قبل المعركة. وما زاد من تأكيد خيارهم بأن الموت أفضل من الاستسلام، رؤيتهم للإعدامات التي تعرّض لها حتى مَن خان المخيم وسلّم سلاحه من مقاتلي «الصاعقة». يروي محمد حامد، أحد المقاتلين في تل الزعتر، أنه كان في بيت أحد الأصدقاء يقومون بتحضير الشاي عندما سمعوا بأن هناك هجوم من «الكتائب» على المخيم، فتحرّكوا بسرعة وكانوا أربعة مقاتلين فقط، حيث قاموا بكمين متقدّم؛ أربع مقاتلين قاموا بصد ما يزيد عن سبعين مقاتلاً (7).
لم تكن مواجهة مقاتلي تل الزعتر، رغم ضعف تسليحهم وتدريبهم وقلة مواردهم ونقص الإمدادت الطبية والغذائية، تمر بسهولة، وعند كل معركة كانت القوات المهاجمة تحاول من خلالها التقدّم أو سحب جثث أو رفع علم أو احتلال حارات ومواقع كانت تتكبّد خسائر كبيرة ومرهقة. وهذا لأن المعركة لم تكن معركة تقليدية، مقاتلين ضد مقاتلين، بل كانت مجموعات إرهابية ضعيفة العقيدة وكثيرة التسليح، تقاتل مجتمعاً محاصراً متماسكاً. فما إن بدأت المعركة حتى تحوّل كل المجتمع إلى مجتمع مقاومة. هناك مجموعة من المقاتلين هدفهم الدفاع عن المخيم وتنفيذ العمليات ضد العدو وردع تقدّمه، ومجموعة أخرى هدفها تدريب الفدائيين والفدائيات الجدد، وأخرى حماية المدنيين والمرافق والمستودعات. والمستشفى المحاصر والقريب من مركز الاشتباكات، تم تحويله إلى 14 نقطة داخل المخيم من إسعاف واستقبال وطوارئ وعيادات، ولم يكن هناك سوى أربعة دكاترة، أمّا الباقي فهم ممرضون ومسعفون ومتطوعون لنقل الجرحى (8).
وكان اشتداد الحصار يعني اشتداد تماسك السكان ببعضهم البعض، فحتى الطعام الذي كان مفقوداً، ولم يتبقَ منه سوى العدس، أصبح فعلاً جماعياً، في الحارات والملاجئ تقوم النساء بتجميع ما تبقى من المونة من عدس وطحين وزيت والطبخ لكل الموجودين. وكان أصعب فعل هو تأمين المياه للشرب ولعلاج الجرحى، وهناك العشرات من الرجال والنساء والفتيات والفتية ارتقوا شهداء وهم في طريقهم لتأمين المياه. وهكذا كل السكان، كان لهم دور في صناعة الصمود. هذا الصمود الذي شكّل المادة الخام والدرس الأوّل لصمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية إلى يومنا هذا.
أعادتنا الأحداث المؤسفة في مخيم عين الحلوة قبل أيام إلى حقيقة الدور الذي تؤديه الرجعية العربية والفلسطينية -الممثلة بقيادة السلطة الفلسطينية والبرجوازية التجارية المتحالفة مع إسرائيل- في محاولاتها الدائمة إشعال لبنان ومحاصرته بمعارك جانبية وفتن كتعبير عن موقعها التصفوي من المقاومة. فالرجعية الفلسطينية تنظر بعين الإعجاب للرجعية اللبنانية، وقد تعلّمت منها دروساً عدة.

* كاتب فلسطيني

هوامش:
(1) الفيلم الوثائقي «تل الزعتر» لجان شمعون ومصطفى أبو علي وبينو أدريانو، 1976.
(2) هاني مندس، منى السعودي (إعداد فني)، تقديم محمود درويش، «الطريق إلى تل الزعتر» (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطينية - الإعلام الموحد، منظمة التحرير الفلسطينية، 1977) 30.
(3) الفيلم الوثائقي «تل الزعتر» لجان شمعون ومصطفى أبو علي وبينو أدريانو، 1976.
(4) نجيب أبو حيدر، «مدرسة الصمود والإقدام في تل الزعتر» (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطينية - الإعلام الموحد، منظمة التحرير الفلسطينية، 1976)، 33.
(5) هاني مندس، منى السعودي (إعداد فني)، تقديم محمود درويش، «الطريق إلى تل الزعتر» (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطينية - الإعلام الموحد، منظمة التحرير الفلسطينية، 1977) 12-13.
(6) المرجع السابق، 7.
(7) المرجع السابق، 17.
(8) المرجع السابق، 14.