إنّ الناظر للحالة الفلسطينية المأزومة، سيلاحظ أنّ العدو أصبح يستخدم الفلسطيني ضد الفلسطيني في تشكيل القناعات السياسيّة. الانقسام شكّل الفرصة الكبرى في هذا الأمر الذي يجعلنا بدورنا نقوم برصد هذه الظاهرة، وبالتالي وضع أساسيّات لمحاربتها بشكل فعّال.لا يتوقف الأمر عند استخدام المفاهيم التي تشكّلت بعد الانقسام، بل يستخدم الاحتلال المفاهيم القديمة للتشكيك في مفهوم النضال ضدّه بشكل عام. بحكم غياب الذاكرة الجمعيّة التي تشكّلت أثناء المد الثوري في فلسطين خلال القرن الماضي، التي وعلى الرّغم من عدم نضوجها سياسياً واجتماعيّاً، إلا أنّها شكّلت لبنة جدار الحماية الأولى للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده التي يمكن التعويل عليها لمنع الشروخ السياسيّة والاجتماعيّة التي قد يستخدمها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني الآن.

الطلقة الأولى... بداية الشرخ على أيدي الفلسطينيين
منذ بداية القرن الماضي، والفلسطيني يبتكر آليات نضاليّة ضد الاحتلال. سواء البريطاني أو الصهيوني. لم يتوقف الأمر على الفلسطيني وحده، بل كان هناك امتداد نضالي عربي. تمثّل في الشيخ عز الدين القسّام في أبهى صوره. وبعد نكبة عام 1948، لم يتوقّف الفلسطيني عن النضال، بل كثّف مجهوداته ضد الاحتلال الصهيوني، فكانت هناك حركات بسيطة في فلسطين مبنيّة على رد الفعل على النكبة نفسها، ولها امتدادها العربي أيضاً مثل حركة القوميين العرب التي أسّسها الراحل جورج حبش مع رفاقه. وعلى الرغم من طرد الفلسطينيين واحتلال الأراضي وإحلالها في النكبة، إلا أنّها كانت موحِّدة للشعب الفلسطيني والعربي في النضال ضد المحتل الصهيوني. لكن للأسف، لم تلبث الأمور طويلاً حتّى التفّت الأنظمة العربيّة على القضيّة الفلسطينيّة التي تحوّلت من قضيّة تشحن عواطف الشعوب العربيّة، إلى قضيّة تُستخدم في تبرير الديكتاتوريات التابعة لهذه الأنظمة كما فعل نظاما مصر والأردن. وتحوّلت من قضيّة شعبيّة إلى قضية داخل أروقة قصور الرئاسة والممالك العربيّة الرجعيّة. هذا الأمر جعل هناك ردّ فعل عكسي من الفلسطينيين ضد هذه الأنظمة، محاولين انتزاع القضيّة منها. وجعلها قضيّة تخص الشعب الفلسطيني وحده فقط بلا امتداد عربي. فظهرت الحركات الفلسطينيّة التي بدأت مرحلة جديدة في النضال لتحرير فلسطين. مثل حركة التحرير الوطني (فتح). لكنهم وقعوا في خطأ جسيم ألا وهو نسف التاريخ الفلسطيني والعربي النضالي القديم بشكل غير مبرّر، واعتبار الثورة الفلسطينيّة بدأت من تاريخ ظهورهم، الأمر الذي استخدم ضد الفلسطيني نفسه من قبل الاحتلال الصهيوني إلى يومنا هذا، فأصبح التاريخ مقطوعاً لدى الأجيال التي لم تُعاصر النضالات السابقة، وبالتالي خرج لنا الفدائي الأول من جديد بلا تاريخ نضالي والذي يمكن استخدامه بسهولة في صناعة رأي شعبي ضد التاريخ الطويل من النضال لدحر المحتلّين.
مثلاً تسمع أن الحصار في غزّة سببه حركة حماس لا الاحتلال. أو الاستيطان ردّ فعل على توقف المفاوضات بين السلطة الفلسطينيّة و«الجانب الإسرائيلي»


كيّ الوعي... جيل منهزم
على مدار سنوات الثورة الفلسطينيّة، حاول الاحتلال الصهيوني كيّ الوعي الفلسطيني، وبالتالي الوعي العربي. وكيّ الوعي بمفهومه البسيط هنا، يعني تشكيل مفاهيم وقناعات لدى الفرد الفلسطيني تحيد عن الهدف الأساسي في مقارعة الاحتلال، فتكون متفقة أو غير متعارضة مع رغبة الاحتلال. هذه العمليّة الطويلة ضد الفلسطيني في أوج نشاطه العسكري والسياسي ضد الاحتلال الصهيوني آتت أُكلها للأسف، وبالتالي تم إنتاج جيل يقبل باتفاق «أوسلو» المشؤوم. مبررًّا قبوله بأنّه ليس هناك أيّ بديل منه. وبالتالي أصبح هناك طبقة شعبيّة كاملة من المستفيدين من «أوسلو» تبرّر عدم النضال بـ«الواقعيّة» السياسيّة المكوي فكرها من الأساس، والتي هي امتداد لفكرة الفدائي الأول الآنف ذكرها.
لم يتوقف الأمر عند كيّ الوعي في سنوات ما قبل «أوسلو» الذي أنتج هذا الجيل المنهزم، بل أسّس لما بعدها، فتمكّن من صنع بيئة خصبة تصلح فيها الانقسامات، بيئة تصلح لتصنع مفهوم الإنسان «الفلسطيني الجديد» الذي بشّر به كيث دايتون. أصبحت هذه الطبقة المسخ في التاريخ الفلسطيني ذريعة لخروج طبقة تناقضها وتناقض مفاهيمها راديكالياً. طبقة ناتجة كرد فعل شعبي عاطفي، وبالتالي ما زالت غير ناضجة، يمكن استغلالها - بشكل غير واعٍ منها - لصناعة انقسامات جديدة بين الفلسطينيين أنفسهم.
من إدارة الفهم إلى علم التجهيل... الهدف واحد
بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007، برزت «الطائفيّة السياسيّة» بشكل فجّ على السطح، الأمر الذي صنع شرخاً كبيراً بين الشعب الفلسطيني من جديد، وهذا الأمر لا يمكن علاجه إلا برحيل طبقة المستفيدين منه بشكل كامل من الطرفين. هذا الانقسام صنع بين الأطياف الحزبيّة فقاعات معرفيّة في ظاهرها وطنيّة، وهي بالواقع نتيجة «علم التجهيل السياسي» - علم التجهيل (أغنوتلجي) هو التشكيك بالمعلومات بطريقة يستفيد منها الاحتلال عبر نشر حقائق مزيّفة - الذي تمارسه إسرائيل ضد أبناء الشعب الفلسطيني الواحد. كما يحدث اليوم في المناكفات السياسيّة للأجيال التي لم تعِ الانقسام. و«إدارة المعرفة» - إدارة المعرفة هي نشر معلومات أو حذف معلومات ليستفيد منها صاحب المصلحة ذاته - التي يستخدمها أطراف الانقسام ضد بعضهم بعض، والمستمرّة إلى يومنا هذا، ونراها يوميّاً في إعلام الطرفَين المنقسمَين. هذه الفقاعات ساعدت بشكل كبير الرواية الصهيونيّة التي تلقي اللوم على أنّ الفلسطيني هو أساس المشكلة وليس الاحتلال. فمثلاً تسمع أن الحصار في غزّة سببه حركة حماس لا الاحتلال. أو الاستيطان ردّ فعل على توقف المفاوضات بين السلطة الفلسطينيّة و«الجانب الإسرائيلي». أو أنّ تقليص المساعدات الدوليّة بسبب سلوك الإنسان الفلسطيني غير المحمود. والكثير من الأمثلة التي نسمعها يومياً تُبرّئ الاحتلال من مسؤوليته المباشرة عن وضع الإنسان الفلسطيني المهدور في هذه الأرض.
على الرغم من هذا كلّه، وعلى الرغم من سوداويّة المشهد، هناك جيل بدأ يكوّن نفسه للتوّ خارج حسابات الأحزاب في فلسطين، وبرؤية وطنيّة تتجاوز الخلافات القديمة، وترفض الأمر الواقع الذي هو فيه. جيل وحدوي من الممكن التعويل عليه. وهذا الجيل إذا اتّبع آليات تعبئة وطنية وثوريّة تستطيع تفنيد فكر الطبقات القديمة، فسيكون بارقة الأمل في تكوين فلسطين التي نريد.