حروب خارجية خاطفة... وقبضة حديديةلقد اتّسمت كل الحروب التي خاضها الكيان الصهيوني منذ إنشائه بأنها «خارجية» و«خاطفة». أما داخلياً، ولتكريس احتلاله، فقد اعتمد سياسة «القبضة الحديدية»، سائراً بذلك على تعليمات زئيف فلاديمير جابوتنسكي التي ضمّنها في مقاله المعروف «عن الجدار الحديدي» والمنشور بالروسية في نوفمبر عام 1923.
ملخّص مقال جابوتنسكي الذي أصبح عقيدة عسكرية للكيان الإسرائيلي وحكوماته المتعاقبة بما فيها الحكومة الحالية بزعامة بنيامين نتنياهو، عبّر عنه بدقّة آرييل شارون، أحد أكثر القادة الصهاينة تطرفاً وارتكاباً للمجازر، حين قال: «إن ما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بمزيد من القوة»!.
خلال ذلك، خاض الفلسطينيون سلسلة من الثورات والانتفاضات، انصبّت على كسر تلك «القبضة الحديدية»، وقد شكّلت معركة «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، أكبر تحوّل في سياق هذا النضال؛ لأنها، نقلت المعركة إلى داخل معاقل الكيان، من جهة، ووجّهت ضربة قاصمة للنظرية الأمنية التي يقوم عليها، من جهة ثانية.


في ذلك التاريخ من صبيحة يوم السبت الذي صادف ما يسمى «عيد الغفران» لدى اليهود، تمكّنت ثلة من المقاتلين الفلسطينيين لم يتجاوز عددهم الـ 1500 مقاتل، مستخدمين أسلحتهم الشخصية وبعض القذائف المضادة للدروع والطائرات المُسيّرة، ومسنودين بعدد من الطائرات الشراعية، من اقتحام سلسلة أسلاك شائكة وجدران أمنية محصّنة أقامها الاحتلال على طول ما يسمى «غلاف غزة» من أجل حماية العديد من معسكراته ومستوطناته، وحصل ما حصل مما يعرفه الجميع، خصوصاً سقوط قادة وأفراد الفرقة العسكرية الشهيرة والمعروفة بـ «فرقة غزة» بين قتيل وجريح وأسير، عدا القتلى والجرحى والأسرى الصهاينة الآخرين من جنود ومستوطنين في باقي المستوطنات والمعسكرات الصهيونية الأخرى، لكن ليست هذه البداية ولا كل الحكاية!

هذه ليست البداية ولا كل الحكاية!
منذ بدء نضالهم من أجل الحرية، استمدّ الفلسطينيون القوة من عدالة قضيتهم وحقّهم في الحرية وتقرير المصير، ولربّما الأهم، من إيمانهم بزوال الاحتلال باعتبار ذلك «حتمية تاريخية» أثبتتها تجارب كل الشعوب التي خضعت للاستعمار وتكلّل كفاحها بالنصر.
رافق النضال الفلسطيني محطات مدّ وجزر، لكنه لم يتوقف، رغم بطش الكيان الصهيوني واستخدامه سياسة القبضة الحديدية، فتوسّعت رقعة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي لتشمل كل حدود دول الطوق مع فلسطين التي حصّنها الكيان بالأسلاك والمعسكرات ونقاط الرصد والمراقبة وزرعها بالمتفجّرات، وذلك يُعدّ أكبر تحدّ واجه هذا النضال.
رغم انتكاسات عديدة كان أبرزها مغادرة القوام الأكبر لقوات الثورة الفلسطينية لبنان إثر العدوان الإسرائيلي عام 1982، حقّق النضال الفلسطيني اختراقات عدة، من أهمها «انتفاضة الحجارة» عام 1987، ومثّلت الأخيرة المحطة الأولى على طريق تحدّي سياسة القبضة الحديدية الإسرائيلية، وكانت من أفظع صورها سياسة «تكسير العظام» التي استخدمها المجرم إسحق رابين مع الشبان والأطفال الفلسطينيين.
في هذه الثورة أعاد الفلسطينيون، أكثر من أي وقت مضى، طرح قضيتهم بقوة على الأجندة الدولية، وبفضلها دخل قاموس العالم ما بات يُعرف بـ«الانتفاضة»، وزادت رمزية الكوفية التي ارتبطت حصراً بالفلسطينيين ونضالهم، مكانة كتعبير عن نضال كل الأحرار والحركات الثورية والتقدمية في العالم.
باختصار، كانت انتفاضة عام 1987 أول مواجهة فلسطينية مباشرة مع المحتل على ساحة الأرض المحتلة، أي «داخل معاقل الكيان»، وقضّت مضاجع الصهاينة وكيانهم وأربكت جيشهم وحساباته، وفضحت جرائمه أمام العالم، وشكّلت له ما يشبه «الصداع»؛ لكن ما يجدر الإشارة إليه أن الانتفاضة جاءت بعد عملية فريدة لم يعهد الكيان مثلها من قبل هي «عملية قبية» أو ما عُرفت بـ«عملية الطائرات الشراعية» التي نفّذها مقاتلون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة بتاريخ 25 تشرين الأول 1987.
من التبسيط اختزال تاريخ يمتد لأكثر من 7 عقود من العمليات الفلسطينية المسلّحة التي استهدفت معاقل الكيان بـ«عملية الطائرات الشراعية»، لكنّ خصوصيتها تكمن في حينه أنها الأولى التي لم تكن كلاسيكية، أي لم تعتمد على مجموعات مسلحة كان أفرادها يعبرون الحدود كما جرت العادة، بل استخدمت أكثر من طائرة شراعية، وهو الأمر الذي مثّل تحولاً في تاريخ النضال الفلسطيني لم يسبق له مثيل إلى أن حصلت «طوفان الأقصى» التي استُخدمت فيها الطائرات الشراعية والطائرات المُسيّرة، كما أسلفنا.

كما نزلوا من السماء... سيخرجون من تحت الركام
صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، وفي معرض تغطيتها لملحمة «طوفان الأقصى» أعدّت تقريراً نوّهت فيه إلى أن الفلسطينيين كانوا استخدموا الطائرات الشراعية في عملياتهم ضد كيان الاحتلال قبل 35 عاماً، مشيرة بذلك إلى «عملية قبية» المشار إليها والتي شارك فيها أربعة مقاتلين من منتسبي القيادة العامة، فلسطينيان والثالث سوري يدعى خالد أكر والرابع تونسي واسمه ميلود بن ناجح، وقد ارتقى الأخيران شهيدين بينما عاد الفلسطينيان لخلل فني طرأ على طائرتيهما وبقي اسماهما مجهوليْن.
وخلصت الصحيفة الأميركية إلى أن العملية التي استهدفت معسكراً لجيش الاحتلال الإسرائيلي في مستوطنة «كريات شمونة» شمالي فلسطين المحتلة وأسفرت عن مقتل وجرح 35 جندياً إسرائيلياً، هذا الهجوم تكرر بصورة أوسع في سياق عملية «طوفان الأقصى»، انطلاقاً من غزة إلى ما تسمى بـ«مستوطنات الغلاف».
لم تكن الطائرات التي غزا فيها الفلسطينيون «المجال الجوي الإسرائيلي» قبل 35 عاماً نفّاثة أو مروحية أو حتى مناطيد، بل بالكاد «طائرات ورقية مجهّزة بمراوح ومحرّكات بحجم آلة جزّ العشب» قالت صحيفة «واشنطن بوست»، مع ذلك لم يحم ذلك الصهاينة من هول المفاجأة ليلة 25 نوفمبر 1987 حين نزل عليهم المقاتلون الفلسطينيون من السماء، وصبيحة يوم 7 أكتوبر 2023 استيقظوا على «نوع آخر متجدّد» من هؤلاء المقاتلين «داخل معاقل كيانهم». وخلال معركة الإبادة والتطهير العرقي التي شنّها الكيان، توعّد رجال المقاومة الفلسطينية الكيان بأن يخرجوا إليه من بين الركام... ومن تحت الأرض... وأن يأتوه من بين السحاب... كأنّ الحتمية التاريخية لنهايته دنت فـ«أين له المفر؟!».