عقب إعلان اغتيال الشيخ صالح العاروري، تداول عدد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من مقابلات أجرتها معه وسائل إعلام عربية. في هذه المقاطع، كان الشهيد العاروري يرحّب بالشهادة، وكذلك يدعو الشباب الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال بكل ما أمكن. استشهد الرجل الذي ذاع صيته منذ سنوات في الشتات الفلسطيني، بينما كانت تعرفه الضفة الغربية المحتلة منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي اغتياله تخسر الحركة الوطنية الفلسطينية رجلاً عوّل عليه الشعب كثيراً، ولا سيّما أنه كان يؤمن بالكل الفلسطيني، ويؤمن بأن الصراع مع المحتل هو الأساس الذي تُبنى عليه المواقف والتصريحات.
(ظريف الطول، ميشيل جبارين)

ولعل تصريحاته بعد عملية «طوفان الأقصى» منحت الشعب الفلسطيني إحساساً عميقاً بالوحدة، تلك التي أغلقت أفواه فتنة كانت تريد فرقةً بين الفلسطينيين على مستوى القوى المقاومة. تصريحات الشهيد في أكثر من موضع قبل «الطوفان» وبعده كانت تتنبّه وتنبّه إلى ضرورة رص الصف الفلسطيني، واعتباره متكاملاً ولا يتناقض في الجوهر، ما دام يعرف الطريق الموصلة إلى فلسطين. ولعل هذه الروحية التي كان يتمتّع بها الشهيد هي التي جعلته يقود إحدى حلقات الحوار الوطني الفلسطيني اعتماداً على علاقته بأمين سر اللجنة المركزية لحركة «فتح»، جبريل الرجوب، إذ كانا معاً في الأسر لدى الاحتلال. ولعلّ هذه المعرفة التي بينهما، هي التي جعلت من الأخير يعتبر اغتيال العاروري «خسارةً فتحاوية قبل أن يكون خسارةً حمساوية، وهو خسارة لحركة التحرر الوطني»، وقد وصفه الرجوب في نعيه بأنه «صمّام أمان».
الاسم الذي رافقنا منذ سنوات ليست طويلة، صار رمزاً من الرموز الوطنية الفلسطينية، يضم إلى قائمة من الأسماء الفلسطينية الكبيرة التي حفرت عميقاً في وجدان الشعب الفلسطيني. هذه الأسماء منبع نهلت منه الطاقات الوطنية السابقة، وتنهل وستنهل منه الحالية والقادمة. هؤلاء عندما يستشهدون يتركون وراءهم كل التصنيفات التي كانت توضع جوار كلمة فلسطين، فيصبح واحدهم فلسطينياً فقط، فالانتماء الفصائلي من أجل فلسطين دنيوي، أمّا في الموت المادي لهؤلاء، فثمة حياة أخرى، هي الضمير الفلسطيني، فهؤلاء الشهداء يبقون في هذا الضمير أحياء، يبعثون الروح، وينبهوننا حين ننزاح عن الصحيح في القضية، فيرجعوننا إلى صراط لا يذهب إلّا إلى فلسطين.
الشيخ العاروري وأمثاله من الفلسطينيين الشهداء، يشكلون حاجة ماسة للقضية الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني، فهم كالإبر التي تشد حياكة الثوب الفلسطيني، فلا ينفلت عقده ولا ينفرط. وهؤلاء يرجعوننا لنتذكر أن فلسطين المحررة هي الطريق وهي السبيل، وإليها ذهبوا وسبقونا شهداء، وعلينا أن نتبعهم نحوها، سواء كأحياء أو كشهداء.
الشيخ صالح العاروري، له أب، وله أم شاهدناها وسمعنا قولها الجليل بحق ابنها وبحق فلسطين والشهادة من أجلها. لكن للعاروري أشقاء كان يعرفهم جيداً، شهداء قضوا قبله، يحمل صورهم في صدره، أبو علي إياد وغسان كنفاني وماجد أبو شرار وأبو جهاد وأبو إياد وعز الدين القلق ويحيى عياش وفتحي الشقاقي وياسر عرفات وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وباسل الأعرج وغيرهم... هؤلاء إخوة العاروري، اغتالهم الاحتلال، لإدراك منه بدورهم، ليس العسكري كما يتصور البعض بسهولة، بل لقوّتهم في الروح الفلسطينية والعربية، وللذي يفعلونه في الفلسطينيين من تعزيز الثقة بالنصر.
هؤلاء الشهداء الذين يوصفون بالقادة، هم الروح الفلسطينية المقاتلة في الشعب، ورغم دورهم الكبير خلال حياتهم المقاومة بأشكالها المختلفة، لهم دور آخر، مرسوم منذ ولدوا، ويمكن لمسه في سيرتهم. يبدأ هذا الدور في حياتهم، ويكملونه بعد استشهادهم، هذا الدور شهدناه قبل خمسين عاماً في جنازة الشهداء القادة الثلاثة الكمالين ناصر وعدوان وأبو يوسف النجار، وشهدناه قبل يومين في جنازة العاروري ورفاقه، بأجيال تؤمن بأرضها، تعطيه هذا الإيمان قلبها، هذا الإيمان اسمه فلسطين.