ثلاثة أشهر وأكثر، ونحن نعيش مقتلة متجدّدة، مكانها قطاع غزة، لكنها تسكن في قلوب العالم. من السهل القول إن المقتلة المستمرة لم يشهد مثلها العالم، وهذا غير صحيح. ومن السهل أيضاً، اعتبار أن فعل المقاومة، لم تشهد له الشعوب التي خاضت نضالاً تحررياً، وهذا غير صحيح. لكنّ الصحيح، هو أصل الحكاية، تلك التي تعود إلى أكثر من مئة عام، حدثت فيها النكبة وحدث فيها التهجير، واحتلال باقي فلسطين.إنّ العودة إلى أصل الأمر، لا تبعدنا عن الذي يجري يومياً أمامنا، ونحن عاجزون عن فعل كبير يمنع الموت مؤقّتاً عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. بل يقرّبنا من الفهم العميق للأمر، أي المشروع الاستعماري الذي تأسّس في فلسطين بإرادة استعمارية عالمية. هذه الإرادة الاستعمارية ممثّلة بعدد من الدول «العظمى» في العالم، مالكة القرار وحاكمة الحكّام في بعض ديارنا العربية وديار العالم، معها بدأت المشكلة، ومعها تستمر، وما القتال الذي جرى ويجري في مواجهة إسرائيل، سوى قتال الوكيل الاستعماري، الذي استفاد في لحظة من التاريخ من استغلال الحاجة الاستعمارية إلى خلق هذا الوكيل في المنطقة، لحفظ مصالح «الكبار» وحمايتها.


لعل وعي الثورة الفلسطينية منذ تأسيسها قبل 59 عاماً للمسألة الاستعمارية، وقبلها «حركة القوميين العرب»، وبعدها القوى الإسلامية الفلسطينية، جعل لمبادرتنا النضالية أهمية مضاعفة، فدفعت أحرار العالم للالتحاق بهذا النضال الوطني القومي الأممي الفلسطيني.
واليوم، تعود هذه الثورة لتثور، بعد أن خمد وهجها بفعل اتفاقيات استسلام فلسطينية أنجزتها الثورة الفلسطينية في لحظة عجز، فوقّعها الإسرائيلي من جانب، ومن الجانب الآخر لم يقبل عقله هذا الاستسلام وهذا التنازل، لأنه يريد المزيد، وهذا المزيد هو أن لا نكون. ولمّا لم يجد بين الفلسطينيين من لديه الجرأة على تقديم المزيد أو الذهاب نحو الموت النهائي لنا، للقضية والشعب، انتفضت فلسطين في وجهه عام 2000، وعادت المعجزة الفلسطينية للخروج والصعود عالية رافعة في وجه العالم، فعاد وهج الثورة، وعاد العالم إلى ضالّته. ففلسطين تنبه العالم إلى مظالمه الكثيرة بفعل الاستعمار العالمي، تنبهه إلى وحش الرأسمالية المتغطرس، وتعيد الانتباه إلى الشر المقيم في هذه الزاوية الحادة من العالم التي اسمها فلسطين، فيعود العالم كله لينتفض، وإن بأشكال مختلفة؛ بعضها نراه في الشوارع، وبعضها في «محكمة العدل الدولية» كجنوب أفريقيا، وبعضها بالمقاطعة، وهكذا. لكنّ انتفاضة أخرى تحدث، هي في نفوس الشعوب التي ترى الظالم والمظلوم، وترى الداعمين للمقتلة. ولعل الانتفاضة الأخيرة لدى الشعوب في العالم تعمل في النفوس الكثير، وآثارها ستخرج يوماً في الشوارع لتسقط حكومات وأنظمة وسياسات وإدارات.
ومع أننا كفلسطينيين خسرنا من أنفسنا الكثير بفعل الإدارة السياسية لقضيتنا، وبفعل الانقسام البغيض الذي اقتطع من روحنا أجزاء كدنا نصدّق أننا لن نستعيدها، إلا أننا عدنا واستعدناها، ليس في السابع من أكتوبر في العام الماضي مع «طوفان الأقصى» فقط، بل بالدأب الذي قادنا إلى هذا اليوم الكبير. لقد خضناه بنضالنا اليومي كشعب، كقطرة الماء التي تدأب على الصخر، فتحفره، فتعيد صياغته، ثورة وطنية فلسطينية، تعيدنا حركة تحرر وطني في سبيل الأرض نعم، لكن أيضاً في سبيل آخر، وهو إنسانية الإنسان الفلسطيني الذي ما فقد كرامته يوماً، والأهم ما فقد ثقته بالنصر لحظة من الزمن.
ما فعله الشعب الفلسطيني في «طوفان الأقصى» أعاد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، وأعاد إحساس الفلسطيني بوجوده كإنسان غير عادي في المنطقة والعالم. الفلسطينيون في الداخل يعيشون تحت الاحتلال، ويواجهون في كل يوم شكلاً من أشكال الانتهاك، بينما في الخارج، هم لاجئون، ولن يحظوا بإحساس طبيعي كسائر البشر على وجه البسيطة، إلا بعودة كل واحد منهم إلى مدنه وقراه. فحتى من حصل على جنسية عربية أو أوروبية، علاقته بهذه الجنسية، مرتبطة بكونه لاجئاً، وليس بكونه مواطناً حصل عليها من هجرة أو لجوء سياسي أو حرب أدّت إلى لجوئه الإنساني.
إن عودة هذا الزخم الفلسطيني إلى الفلسطيني، ربما هي النتيجة الأكثر قهراً وإيلاماً لإسرائيل ومن يشغّلها في هذا العالم. وهي النتيجة الاستراتيجية لمن يحبون الاستراتيجية، فقد أعادتنا إلى هويتنا وهوانا، فكانت في المجدّدين والأنبياء الذين يأتون لتأدية رسالة الصراط المستقيم.
وما إن تكتمل هذه العودة للزخم الفلسطيني في الفلسطيني، حتى تأخذ المعركة الشكل الصحيح لها، وتبدأ بإنجاز مهمتها، ولن يكون هذا الشكل الصحيح، ولا إنجاز المهمة، ما لم تتفق فلسطين مع فلسطين. فالروح الواحدة لدى الشعب الفلسطيني ليست كافية، ما لم تُترجم سياسياً على مستوى القوى الفلسطينية كافة، وحتى ذلك الحين، علينا الاستمرار كأناس بسطاء في هذا النضال، وعظماء نحمل روحاً مؤمنة بالنصر، تخوض معركتين، واحدة مع الاحتلال، وأخرى مع كل القوى الفلسطينية، حتى تمتثل للقرار الفلسطيني المطالب بالوحدة، والعمل وفقاً لمشروع وطني متوافق عليه بين الجميع. وما لم نفعل ذلك كفلسطينيين، سنخمد مجدداً، وننكسر مجدداً، وننتظر معجزتنا الفلسطينية الجديدة.
وهنا علينا الانتباه والتحذير: إنّ من يناضل من أجل هذه القضية الكبيرة، ليس منزّهاً عن الأخطاء، وكل خطأ أو خطيئة يرتكبها لا يجبّها فعله النضالي والمقاوم، فالشعب أبقى من الجميع. ولعل لنا عبرة في حركة «فتح» التي قاومت وقدّمت الشهداء، وذهبت لاحقاً نحو الحل «السلمي» فلامها الناس، وقرّعوها، وشتموها. ولمّا عاد بعض من فيها إلى رشد فلسطين، عاد الناس إليها، فلهم فيها الكثير، دماء ورموز، وأيام كانت «فتح» تمثّل لهم ما تمثّل. وصحيح أن السلطة الفلسطينية أغرقت «فتح» في وحلها، إلا أن الحديث عن بعض أبناء هذه الحركة، ولعل الكلام ها هنا عن «فتح» لكنه أيضاً رسالة إلى «حماس».
قد لا يجد البعض أن من الصحيح توجيه مثل هذه الرسالة الآن، وكتائب هذه الحركة تخوض المعارك في قطاع غزة، معها «سرايا القدس» و«كتائب أبو علي مصطفى» و«كتائب المقاومة الوطنية» و«شهدا الأقصى» وغيرها. لكن ما أظنه صحيحاً أن نتوقف عند بعض التصريحات التي أدلى بها بعض «قادة» حماس السياسيين من الصف الأول في حوارات لوسائل إعلام، حول «مناقشة الاعتراف بإسرائيل» أو القول «إن الإسرائيليين يجب أن يحصلوا على حقوقهم ولكن ليس على حساب الآخرين»، والتي قالوا لاحقاً إنه أسيء فهمها، لكنهم إما أنفسهم أو غيرهم كرّروا ما يشبه محتواها في منابر أخرى، ليكون هذا التكرار مشيراً إلى أمر ما، لا بد من التنبيه إليه، ولا سيما أن الشعب الفلسطيني فقد من أبنائه في قطاع غزة والضفة الغربية أكثر من 23 ألف شهيد، وآلاف الجرحى غيرهم، فضلاً عن المفقودين، والأسرى الذين تم اقتيادهم إلى أماكن غير معروفة. هذا إضافة إلى نحو 180 شهيداً في جنوب لبنان، معظمهم مقاتلون من حزب الله، ومقاتلون من «القسام» و«سرايا القدس»، وعدد من المدنيين والعسكريين في الجيش اللبناني، عدا الشهداء في اليمن وسوريا والعراق... هؤلاء جميعهم لا يقبلون، ونحن الشعب الفلسطيني من خلفهم في قطاع غزة والضفة والـ 48 والشتات، بأقل من إنجاز كبير يتلاءم مع حجم التضحيات هذه، والوفاء لها. والكلام ليس في معرض التشكيك في أحد، بل تأكيد على المكتسبات الوطنية الفلسطينية التي صنعتها دماء الشعب والمقاومين على مرّ السنين الطويلة منذ النكبة حتى الآن، والكلام ليس «مانفيستو» كقول السياسيين حين لا يحسنون التدبير.