كثر يتحدّثون عن اليوم التالي للحرب، والحديث يدور دائماً حول السياسة والحكم. لكن ليس هناك من يتكلم عن اليوم التالي للحرب اجتماعياً. وقد تجاوز عدد الشهداء من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة 29.514 شهيداً، معظمهم من الأطفال والنساء، و69.616 مصاباً (أرقام وزارة الصحة، نهار الجمعة 2/23) فضلاً عن آلاف المفقودين. هذا عدا عن 80% تقريباً من سكان القطاع نزحوا داخلياً، بينهم أكثر من مليون ومئتي ألف في رفح. اليوم، وبينما العدوان مستمر على القطاع، هناك احتياجات كثيرة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليست مؤمنة. كما أن نسبة الدمار غير المسبوقة وصلت إلى أكثر من 61% من منازل القطاع، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة (نهاية العام الماضي). وبحسب صور قمر صناعي أوروبي، أظهرت أن ما لا يقل عن 68 بالمئة من المباني مدمرة أو متضررة شمال قطاع غزة، و72% على الأقل في مدينة غزة، و39% في الوسط، و46% في خانيونس. وبحسب الأمم المتحدة حتى 15 كانون الأول الماضي، أكثر من 52.500 وحدة سكنية مدمرة، وأكثر من 258.000 وحدة سكنية متضررة جزئياً.
وفي السياق، أكد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في نهاية الشهر الماضي، أن «استعادة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة قبل بدء العملية العسكرية في غزة ستستغرق عقوداً من الزمن، مسلّطاً الضوء على الحاجة الملحّة لكسر دائرة التدمير الاقتصادي التي جعلت 80% من السكان يعتمدون على المساعدات الدولية». وأوضح التقرير، أنه إذا انتهت الحرب، وبدأت عملية إعادة الإعمار مباشرة، وحقق قطاع غزة نسبة نمو 0.4% كالتي كالذي كان مسجلاً في الفترة ما بين 2007-2022 «فلن يتمكن الاقتصاد من استعادة مستويات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 في غزة إلا في عام 2092، مع استمرار تدهور نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والظروف الاجتماعية والاقتصادية».
الأرقام الواردة ليست نهائية، ولن تكون كذلك حتى ما بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، فعشرات الإصابات قد تستشهد متأثرة بإصاباتها، عدا عن الذين أدت إصاباتهم إلى إعاقات دائمة أو مؤقتة. كما أن العائلات المكلومة في القطاع تحتاج إلى إمكانات لاستعادة قدرتها على الحياة الطبيعية التي لن تتوفر شروطها بسهولة في القطاع، ولا سيما أن الدمار شمل معظم مرافق الحياة.
هذا المجتمع القائم في قطاع غزة، يحتاج إلى كامل القدرة الفلسطينية من أجل تمكينه من الحياة ومن البقاء في القطاع، وهذه مسؤولية الجمع الفلسطيني، بدءاً بالمؤسسات القائمة، وأقصد منظمة التحرير الفلسطينية بفصائلها ومؤسساتها، والسلطة الفلسطينية ووزاراتها، وحركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وطبعاً الشعب الفلسطيني بأكمله، والمؤسسات والمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة. وكذلك مطلوب من الدول العربية والإسلامية ودول العالم كافة أن تقوم بدور إنسانيّ وسياسيّ في نجدة الشعب الفلسطيني في القطاع.
العدوان الحالي، ليس كأيّ عدوان سابق، وهذا ليس من عنديّاتي، بل إنه الواقع الذي نتعامل مع نتائجه الكارثية، ونراه في الشاشات، ونقرأه يومياً في الصحف والأخبار العاجلة التي لم تتوقف لدقيقة واحدة منذ السابع من تشرين الأول في العام الماضي. ولعل شعبنا الفلسطيني الذي لا حول له ولا قوة، سوى الإيمان بالله والصبر على البلاء، والإيمان بطاقته الهائلة التي لا تنهزم، وبالمقاومة، يرفع من قوة قلوبنا درجات، ويقدّم لنا الأحاسيس المختلفة، تلك التي تجعلنا نشعر بالفخر من جانب، وتلك التي تجعلنا نشعر بالعجز من جانب آخر. ولأن هذا العدوان مختلف، فإن نتائجه ستكون مختلفة، ليس على صعيد الأرقام التي ذكرت بعضها أعلاه فقط، بل على صعيد ما يمكن أن يكون بعدها.
فالعدو الذي نراه في الميدان، يُضرب عسكرياً، بحسب الفيديوات والبيانات التي تنشرها المقاومة، يعمل على مقلب آخر، يجوّع ويعطّش، ويقتل المستقبل بتدمير القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم. ويعمل على إذلال الناس في مصادر عيشها الطبيعي، لاعباً على وتر تيئيس الناس، وهذا ما لن يتمكن منه، ولن يكون، لسبب بسيط، أن الاحتلال مارس ما يعرفه ويتقنه منذ 75 عاماً، القتل والتدمير ومحاولات التهجير، وهذا الذي لن نعتاده كشعب، ولن نقبله، ولن نستسلم بسببه أو لأي سبب آخر، والدليل ما نحن فيه اليوم.
لكن، ما بعد الحرب، كما في الحرب، المسؤوليات جسام على الجميع، والمهاترات السياسية التي من الممكن جداً أن تحدث، لن تترك الشعب الفلسطيني في المكان ذاته، فستخرج صرخته في وجه الجميع. ولا سيما أننا في ظل هذا العدوان الكبير، لم نشهد تحركاً سياسياً فلسطينياً وحدوياً، ولم نشهد رغبة لدى القوى الفلسطينية الكبرى تقود إلى حل وطني داخلي، يجب أن يكون، من أجل توحيد الرؤى للتصدي في السياسة ووقف العدوان، وتحقيق نتائج في الأرض الفلسطينية، ترضي الشعب الفلسطيني، غاية المقاومة وسبب وجودها. والحديث هنا ليس عن دور تقوم به السلطة في مقر الأمم المتحدة ممثلةً بمندوبها هناك السيد رياض منصور، أو وزير خارجيتها رياض المالكي، أو حتى استقبال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لرؤساء ووزراء دول، بعضها شريكة أو داعمة للعدوان. الحديث هنا عن وحدة فلسطينية في القرار والصراع والمصير، وليس المقصود فقط الوحدة في الميدان، بل الوحدة في السياسة التي سيجلس الجميع على طاولتها في آخر المطاف. إن الوحدة اليوم إلزامية على جميع الأطراف، فالخسائر من عدم التوحّد أكثر بكثير من المكاسب في حال استمرار الوضع الفلسطيني الراهن (الفرداني المهشم)، ولا سيما أن هناك من يراهن على بقاء الوضع على حاله، ويعمل على الترويج لنفسه لتحصيل ما أمكن سياسياً بعد هذه الحرب.
إن ما بعد هذه الحرب، حرب أخرى، ليست بالبنادق، وإنما بالكرامات، سيكسب فيها من يحفظ كرامة الشعب الفلسطيني، بعد الحفاظ على الأرض، وتحقيق مكتسبات ترقى إلى مستوى التضحيات، ولأسباب المقاومة بحد ذاتها.
إن كسب الشعب الفلسطيني ليس مقصوداً به فقط في قطاع غزة، بل كل الشعب الفلسطيني في كل مكان. فمكان المعركة قطاع غزة، لكن المستهدف، باقي فلسطين، وكل الشعب الفلسطيني. وهذا الشعب هو الباقي، وهو الذي ينتج القيادة رغم أنف الجميع، وبعد هذا الموت الكثيف في قطاع غزة والضفة الغربية وباقي أنحاء فلسطين المحتلة، وسابقاً في الشتات، لن يسمح لأحد بأن يأخذ القضية الفلسطينية أينما شاء، فعلى القوى الفلسطينية أن تفكر كيف تعطي الشعب الفلسطيني حقه في التمثيل، وحقه في اتخاذ القرار، وحقه في العيش كريماً، بعدما أدّى ويؤدّي ما عليه من معركة تحرر تقودها فصائل المقاومة التي قوامها الشعب الفلسطيني العظيم.
وفي وضع الشعب الفلسطيني الراهن، ولا سيما في القطاع، لن تفيد الخطابات عن النصر فقط، فهي رافعة للمعنويات، وهذا مهم للغاية في المرحلة القادمة، وتحديداً أن المقاومة أنجزت الكثير، وصنعت المعجزات. لكن تلك الخطابات لن تطعم الجوعى، ولن تسقي العطاشى، ولن تبني المدارس والمنازل، ولن تعيد عمل المستشفيات. لذا علينا جميعاً العمل لليوم التالي للحرب، وأن نستعد لمواجهة الواقع الأليم والكارثي في قطاع غزة، حفظاً لمجتمعنا وقضيتنا ووطننا من مغبّة الأيام القادمة وظلامها.