تبدو الكتابة عن الخلاف الفلسطيني الفلسطيني مخجلة ومعيبة، في هذه الأوضاع الصعبة التي يمر بها الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. لكن ثمة ما يجب أن يقال.في البداية، بتاريخ 14/3/2024 كلّف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى بتشكيل الحكومة الـ 19. وذلك بعد لقاء موسكو الحواري، الذي عُقد في 29 شباط الماضي، واتّسم كما قال البيان الختامي بالـ«الروح الإيجابية البناءة».
(عبد الرحمن المزين)

في اليوم التالي صدر بيان مشترك عن حركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» و«المبادرة الوطنية» حول تكليف عباس لمصطفى بتشكيل حكومة تكنوقراط، ومما جاء في البيان الرباعي: «إنَّ اتخاذ القرارات الفردية، والانشغال بخطوات شكلية وفارغة من المضمون، كتشكيل حكومة جديدة دون توافق وطني؛ هما تعزيزٌ لسياسة التفرّد، وتعميقٌ للانقسام، في لحظة تاريخيّة فارقة، أحوج ما يكون فيها شعبنا وقضيته الوطنية إلى التوافق والوحدة، وتشكيل قيادة وطنية موحّدة، تحضّر لإجراء انتخابات حرَّة ديمقراطية بمشاركة جميع مكوّنات الشعب الفلسطيني». وأضاف البيان أن «هذه الخطوات تدلّل على عمق الأزمة لدى قيادة السلطة، وانفصالها عن الواقع، والفجوة الكبيرة بينها وبين شعبنا وهمومه وتطلعاته، وهو ما تؤكّده آراء الغالبية العظمى من شعبنا التي عبَّرت عن فقدان ثقتها بهذه السياسات والتوجهات».
لم تتأخر «فتح» بالرد، فأصدرت بياناً في اليوم ذاته، جاء فيه أن «من تسبب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبب بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصاً في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية». مؤكدة أن «المفصول الحقيقي عن الواقع وعن الشعب الفلسطيني هو قيادة حركة حماس التي لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزة وفي باقي الأراضي الفلسطينية». وهناك الكثير مما يمكن اقتباسه ووضعه تمهيداً للآتي (سأقتبس منه مجدداً، للضرورة).
على ضفة أخرى، التقت بقية الفصائل الفلسطينية مع الفصائل الأربعة في الموقف من «التكليف» لكن ليس مع كل ما جاء في «البيان الرباعي»، ولا سيما مسألة «تشكيل قيادة وطنية موحّدة» باعتبار المرجعية يجب أن تكون «منظمة التحرير الفلسطينية». فأعلنت «الجبهة الديمقراطية» في بيان لها (16/3/2024) أن «تسمية محمد مصطفى رئيساً مكلّفاً بتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة، خطوة متسرّعة، وخارج إطار مخرجات وروحية لقاء موسكو الأخير، لم تراعِ الظروف السياسية التي تحيط بقضيتنا الوطنية»، و«حزب الشعب» قال في بيان له (16/3/2024) إن «حكومة توافق وطني فقط تحظى بدعم ومساندة كل القوى الفلسطينية وكنتيجة للتشاور معها، هي وحدها القادرة على مواجهة المهام المعقّدة التي يفرضها واقع الاحتلال والعدوان والحصار المتواصل على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية» ، وحزب «فدا» أيضاً دعا في بيان له (17/3/2024) عباس ومصطفى: «إلى إجراء أوسع مشاورات مع كل الفصائل، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، حول الحكومة العتيدة القادمة وتشكيلتها، والحوار بهذا الخصوص كذلك مع كل الشخصيات المستقلة المشهود بوطنيتها ونزاهتها وكفاءتها (...) وأن ما دون ذلك أمر مرفوض ولا يخدم شعبنا ولا مصالحه الوطنية».
في البيانات التي سجّلت موقفاً من تشكيل الحكومة، أربعة فصائل في منظمة التحرير، ثلاثة منها تشارك في اجتماعات اللجنة التنفيذية، وثلاثة خارج «المنظمة». إذاً هناك إجماع وطني فلسطيني على رفض خطوة السلطة، وبالتالي هناك تفرد في القرار لدى السلطة ولدى «فتح» التي أكلتها السلطة كما أكلت منظمة التحرير.
وليس من عندياتي، استغراب تصدي «فتح» للدفاع عن قرار السلطة، بسبب أن «البيان الرباعي» لم يذكر «فتح» إلا مرة واحدة في هذه الفقرة: «ندعو كلّ القوى والفصائل الوطنية، وخصوصاً الإخوة في حركة فتح، إلى التحرّك الجاد والفاعل، من أجل التوافق على إدارة هذه المرحلة التاريخية والمفصلية، بما يخدم قضيَّتنا الوطنية، ويلبّي طموحات شعبنا في انتزاع حقوقه المشروعة، وتحريره أرضه ومقدساته، وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس».
أما بيان «فتح» فهو رد على «البيان الرباعي»، لكنه لم يذكر إلا «حماس»، وتغاضى عن باقي الفصائل والقوى الموقّعة عليه.
هناك الكثير من الأسباب التي تجعل «أم الجماهير» غير راضية، وغير موافقة على ما يحدث في غزة، ولها الحق كباقي الفلسطينيين المتألمين على ما يجري، لكن حين تقول في بيانها «وهل شاورت حماس»، أتساءل أنا وغيري، هل شاورت «فتح» باقي القوى لتكليف الدكتور محمد مصطفى، وهل التزمت (باعتبارها صاحبة السلطة) بقرارات المجلس المركزي التي شُكل من التشاور، وهل شاورت من قبل حين ذهبت إلى «أوسلو» وأخذتنا معها؟!
من الجانب الآخر «حماس» كما يبدو، فإنها فعلاً لا تقوم بمشاورة أحد بما تتخذه من خطوات، وهناك ما يرجح من أحاديث جانبية في أوساط الفصائل، بأن «حماس» تقوم بالتبليغ فقط، وكأن بعض القوى تابعة لها، وليست شريكة في النضال. في حين أنه من المفروض على الحركة أن تشاور باقي القوى الفلسطينية، لأنهم شركاء ثانياً، ولأن غزة جزء من فلسطين أولاً، وليست دولة مستقلة ولن تكون...
إن وضعنا الفلسطيني مضحك، وغير مبهج، ومؤلم. وإن شعبنا بلا أدنى شك، يستحق قيادة أفضل من القائمة المتفردة بنا كشعب وكقضية وكمصير، ولا أقصد بالقيادة «فتح» فقط، بل الكل بلا استثناء، اللهم إلا هؤلاء الذين يقاتلون حتى يقعدوا. ما يؤلم ويفتح الجروح والجراح، أن «فتح» التي كانت «أم الجماهير» بكل ما للكلمة من معنى، تصغر اليوم لتشتغل بـ«رد الفعل» فتصدر بياناً لا يليق بها ولا بتاريخها، ولا بما تقول إنها أولويات الشعب الفلسطيني، وهي بحسب البيان: «وقف الحرب فوراً، ومنع التهجير، وإغاثة شعبنا المنكوب، وإعادة إعمار قطاع غزة، وإنهاء الانقسام وإعادة توحيد الوطن الفلسطيني» (وهي أولويات فعلاً). كان يمكن لـ«فتح» أن تكتب بيانها بطريقة أخرى، وبلغة «وطنية» تليق بعبارة «إنهاء الانقسام»، لكن يبدو أن الرؤوس «حامية» وأن كتبة البيان، يريدون منه من حدث من تداعيات.
بيان «فتح» سمّى «حماس» باسمها -كما ذكرت أعلاه- ما يفيد بأن قوانا الفلسطينية ربما لم تخرج من عام 2007، وهي عالقة هناك، وربما تريد أن تعلّقنا معها في الماضي، في حين أننا الآن في المستقبل. وربما إن لم نحسن التدبير فلسطينياً، فإننا سنعود بالفعل إلى الماضي، لكن ليس لعشرة أو عشرين عاماً، بل ربما إلى خمسين عاماً أو أكثر، خاصة أننا نشاهد «النكبة» بأمّ العين. لكنّ هناك فارقاً عن ما بعد النكبة، من أين يمكن لنا أن نبدأ ثورة جديدة من أجل التحرير، وقد جرى في مجتمعاتنا الفلسطينية ما جرى على مرّ السنوات الماضية، من تهميش وتهجير، وغياب للحلول، وضياع للأفق، والأهم غياب الحس المسؤول لدى من يجب أن يتوفر عندهم هذا الحس، وهم فصائلنا الكريمة، الذين سمحوا لأنفسهم أن يدخلوا في خلاف بينما دم الشعب يسيل على الأرض، وهم لو يعقلون لأدركوا واحترموا وقدّروا أنه لولا هذا الشعب العظيم، لما كانت «فتح» لتكون «فتح»، ولا «حماس» لتكون «حماس»، ولا فلسطين بقيت فلسطين.