تختصر ذكرى يوم الأرض، الحضور الفلسطيني الفعّال على مسرح الصراع الممتدّ في مواجهة الحركة الصهيونية. صحيح أن للحدث لحظة تاريخية محددة، وصحيح أيضاً أن له جغرافيا واضحة المعالم، لكنّ الذكرى حفرت في وجدان الفلسطينيين جميعاً، سواء من أهل الأرض الباقين عليها، أو من تشرّد على قوس الوطن، أو في المنافي البعيدة.أصبحت الذكرى لنا جميعاً، والاحتفال بها ليسا لحظة رفاهية، أو لحظة استرجاع ماض ولّى ولن يعود، فكل يوم يمر على الفلسطينيين هو يوم للأرض، فالقضية في جوهرها صراع على الأرض. وهو التأكيد الدائم والمتواصل من قبل الفلسطيني على إبقاء الحلم حقيقة راسخة في الواقع وفي الوجود. وهو تأكيد على من التصقت روايتهم بها، ومن خلالها بنوا رؤيتهم وهويتهم.

(سليمان منصور)

وفي سبيل ذلك يخاض الصراع المرّ والقاسي، الذي تُقدم فيه التضحيات الجسام، رغم فقدان كل موازين القوى، في مواجهة الحركة الصهيونية النافية للوجود الفلسطيني، لأن هذا الوجود هو الذي يمنع الحركة الصهيونية من إعلان الانتصار، واستمرار الصراع يعني أن الفلسطينيين لا يزالون حتى الآن يؤمنون بحتمية النصر، لأنهم بكل بساطة أصحاب الأرض وورثتها.
في عام 1976 خرج فلسطينيو الجليل على قلب رجل واحد، للدفاع عن أرضهم التي حاول المستعمر انتزاعها منهم، تحت ذريعة «تطوير الجليل» كعادة كل استعمار إحلالي في كل تجاربه مع الشعوب الأخرى، وفي رحلة الدفاع عن الجليل، كان الفلسطيني يرسم ملامح عودة هويته الجامعة، بعد أن مزّقته الجغرافيا، واضطهدته في كل الأماكن، لهذا انتقلت هذه التجربة من الجليل إلى عموم فلسطين، وأصبح «يوم الأرض الخالد» مصدر إلهام للكل الفلسطيني، وصانعه هو من قيل ذات يوم إنه «تأسرل» والحقيقة أن فلسطينيته الكامنة، خرجت إلى العلن لمواجهة جلّادها، فـ «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» إذاً.
وأمام الحرب الدموية الطاحنة والتي تدور رحاها على أرض غزة، يحضر الفلسطيني وتحضر الأرض معه، وهي التي لم تفارقه منذ النكبة حتى هذا الوقت. فغزة ورغم كل الجراح التي أصابتها، والحقيقة التي يجب أن تقال، أنها دفعت فاتورة مضاعفة دفاعاً عن كل الوجود الفلسطيني، ولا تزال تؤكد أنها نقطة الارتكاز الأساسية والعصية على الكسر في جوهر القضية الفلسطينية، فالذين عادوا إلى «غلاف غزة» صبيحة 7 تشرين الأول 2023، عادوا إلى أرض آبائهم وأجدادهم. صحيح أن عودتهم كانت لأيام قليلة، لكنها كانت بالذراع الفلسطينية الخالصة، ممهورة بالدم والتضحيات، وهذا ما يخشاه الاحتلال. ستة أشهر مرت على عودة 7 تشرين الأول، وعشرات الآلاف من الصهاينة الذين فروا من أراضي أجداد العائدين، لا يريدون العودة إليها، ويجمعون أن تجربة الفلسطيني قد تتكرر مرة أخرى.
في الضفة الغربية ومنذ بداية الحرب وحتى هذا الوقت، يعمل الاحتلال على البحث عن أنفاق على مشارف الضفة، بعد شكوى المستوطنين على طرفي الخط الأخضر بأنهم يسمعون في الليل أصوات حفر تحتهم، ويعبّرون عن خشيتهم من أن الفلسطينيين يحضّرون لهجوم يشبه الذي حصل في ذاك الصباح التشريني. لقد أعاد «طوفان الأقصى» السؤال إلى بدايته، بعد أن ظن الصهاينة أن سؤال النهاية قد ولّى.
في الضفة المحتلة التي يحارب فيها الفلسطيني غول الاستيطان الزاحف، بكل أساليب النضال. وهذا الفعل يؤكد أن للأرض من يرعاها ويحافظ عليها، في معادلة متناقضة تماماً في لحظة الصراع، من جهة هناك الشعب صاحب الأرض، يواجه قوة احتلال عسكرية وقوة استيطان غير مسبوقة محمية ومرعية بدولة تسخّر مؤسساتها وطاقاتها لرعاية هذا المشروع. والشعب الأصلي مرتبط بأرضه ارتباطاً عضوياً راسخاً لا يزحزحه شيء، يحسب عمر الشجر، وعدد الغرسات في أرضه وغيرها من التفاصيل التي لا تنطبق إلا على المنغمسين في الأرض. أما المستوطن فتوفر له عوامل الحياة والبقاء في الضفة الغربية صاحبة الأرض الزراعية الخصبة، إلا أن هؤلاء الغرباء، اقتصاد مستوطناتهم غير مرتبط بالزراعة، بل على العكس، غالبية المستوطنات تقوم الحياة فيها على نمط الصناعة المُعفاة من الضرائب.
على المنوال ذاته، تدور معركة هذه الأيام في الكيان حول قانون التجنيد، فرغم أن شرعية «الدولة» تقوم على العودة إلى أرض الأجداد، فقد دفعهم التعارض بينهم إلى التهديد بفرط الائتلاف الحكومي وصولاً إلى التهديد بالهجرة من فلسطين، وهذا يدل على أنهم يتعاملون مع مشروع استثماري رابح، وفي حال اعتقدوا الخسارة، يهددون بالتجرد من مواطنيتهم المدعاة. وبعد نحو 76 عاماً من عمر دولتهم لم تتحقق المواطنة، في حين أن أصغر طفل فلسطيني مولود في الجليل أو المثلث أو النقب وكذلك في الضفة الغربية وغزة أو في مخيمات الخارج والمنافي البعيدة يشعر ويعيش بانتماء فلسطيني ومواطنية فلسطينية، لهذا فالكل الفلسطيني بنظر الاحتلال هو عدو واحد ينتظر فرصته ويتحيّن لحظة الانتصار.
في فلسطين اليوم يسير الفلسطيني وفق رؤية واضحة، وهي أن الصراع على الأرض، في حين تمضي الحركة الصهيونية في مقاربتها أن الأرض لها وفق وعد السماء.
من يعشْ في الأرض ويرثْ كل ماضيه، فهو قادر على مواجهة التحديات، وعلى الأرض ومنها يخرج الفلسطيني عند كل التحديات والمنحدرات يلمّ شتاته من جديد، وبعد نحو 76 عاماً من عمر دولتهم، يميل الميزان الديمغرافي لصالح الفلسطيني، في مؤشر آخر إلى أن الصراع على الأرض يسير نحو منتهاه وفق رغبة الفلسطيني، ولعل وحشية الاحتلال في غزة، وصورته الدموية هما من آخر صور هذا الاحتلال في أطوار وجوده على الأرض.
يوم الأرض ليس ذكرى فقط، إنه يوم متجدّد للفلسطيني يعيشه ويحياه في كل لحظة، والأكيد أن زمن «الأسرلة» قد ولّى عن أرض فلسطين، وإن كان يحدث في بعض بلاد العرب، لكنهم وإن طال الزمن أو قصر سيعرفون الجواب، جواب الأرض الناطقة بلسان أهلها العربي.