بعد نحو أربعة أشهر على حرب الإبادة في قطاع غزة، نظّم المتحف الفلسطيني في بيرزيت في الضفة الغربية تظاهرة فنية في 11 شباط الماضي، ضمّت مساحة أولى وأوسع بعنوان «هذا ليس معرضاً» في قاعة العرض الرئيسية، والمساحة الثانية في الرواق الزجاجي، ضمّت معرضاً فردياً للفنان الغزي تيسير بركات بعنوان «المفقودون»، أما المساحة الثالثة في بهو المتحف، فحملت عنوان «نساء غزّة». عن فناني غزة.
كان للوحة الفنية نصيب كبير من الدمار الحاصل في غزة، وإذا نظرنا إلى الفنانين/ات، وإلى أماكن مثل: «محترف شبابيك للفن المعاصر»، و«غاليري التقاء للفن المعاصر»، نجد هناك ما هو محزن وكارثي، فكل هذه الأماكن قد طاولها القتل والدمار. وفقدت الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية العديد من الفنانين/ات، مثل: الفنانة الشابة هبة زقوت (1984-2023) التي استشهدت برفقة أطفالها وأعمالها الفنية في 13 تشرين الأول 2023. وبعد يومين فقدنا الفنانة شهد نافذ السعودي (20 عاماً)، كما فقدنا يوم مجزرة المعمداني المرعبة الفنان الشاب محمد سامي قريقع (1999-2023) الذي ظهر في فيديو، وهو يقوم بعمل ورشة تطوعية للأطفال في باحة المستشفى في 17 تشرين الأول. وفي 10 كانون الثاني 2024 استشهد الفنان والصحافي فؤاد أبو خمّاش (26 عاماً) برفقة مجموعة من مسعفي الهلال الأحمر. وفي 25 شباط 2024 توفي الفنان فتحي غبن نازحاً بعد أزمة تنفّس حادة نتيجة استنشاق الفوسفور الأبيض، مع عدم قدرته على الخروج من داخل القطاع نتيجة للحصار المصري الخانق والإجراءات المعقّدة والمكلفة على معبر رفح.
(تيسير بركات، عالم قيد التكوين 4، 2023. إكريليك وموادّ مختلطة على قماش 98×131سم) بإذن من مجموعة «تيسير بركات»

إذا نظرنا إلى قصص الفنانين/ات في قطاع غزة خلال حرب الإبادة الحالية، نجد أن لكل منهم نصيباً في هذا العزاء، في عائلاتهم وأصدقائهم وبالتأكيد في أعمالهم الفنية التي تدمّرت بالكامل. يقول الفنان التشكيلي خالد جرادة (1996) من غزة، ويقيم حالياً في فرنسا: «كنا نسمع في الحروب عن خسارة أحد الفنانين لأعماله، لكننا لم نتوقع يوماً أن يكون الدمار بهذا القدر. أرشيفي الفني في غزة لم يتبقَّ منه شيء، كل أعمالي محيت كما بيتنا الحبيب، والآن لا أعرف فناناً لم تذهب كل أعماله. محمد أبو سل أرشيف 35 عاماً من العمل ومجموعات فنية فلسطينية وعربية قام بجمعها. وكذلك محمد الحواجري، ورائد عيسى، وباسل مقوسي، ومحمد الحج، ونبيل أبو غنيمة، وميسرة بارود، وهذا لا شيء مقابل استشهاد رفيقي الحبيب محمد قريقع».
أما شريف سرحان (1976)، وهو فنان يعتمد في بعض أعماله على إعادة تدوير مخلّفات الحرب، وصنع أعمال فنية في الفضاء العام مثل «منارة غزة» الموجودة في ميناء غزة، ودوار «الحروف والمدينة» في مركز مدينة غزة، فبكل حقد قامت الجرافات الصهيونية بتدمير أعماله الفنية. وفي قصة الفنانة دينا مطر (1985) تكمن معاني الحصار، إذ كان لديها معرض فردي قبل 7 أكتوبر، في «غاليري التقاء»، انقصف وتضرّر المبنى واللوحات، ونتيجة الحصار الخانق على مدينة غزة، دخل الناس إلى المبنى، وأخذوا اللوحات، ليس من أجل الفن فيها، إنما من أجل الأخشاب التي استخدمت للتدفئة والطهو، وهكذا فقدت معرضها! وبمزيد من الأسى كتب الفنان باسل المقوسي (1971) «لو لوحاتنا معنا لحرقناهم نخبز عليهم، ونيال اللي لوحاته زيت بطبخ عليهم». أما الفنانة بيان أبو نحلة (2001) فقد تمكنت من أخذ لوحاتها مركز «رشاد الشوا» الثقافي، حيث كانت أعمالها ضمن معرض جماعي افتُتح قبل الحرب، لكن الحرب نالت من أعمالها في منزلها الذي قصفه الاحتلال، فخسرت كل شيء، سوى بعض الأعمال المعروضة حالياً في المتحف الفلسطيني في بيرزيت ضمن «هذا ليس معرضاً».

المتحف الفلسطيني كمساحة بديلة
علقت الأعمال الفنية في «هذا ليس معرضاً» بأسلوب «صالون ستايل» وهو مرتبط بحالة الاستعراض والترف التي عاصرت الثورة الصناعية في أوروبا، وهو يعبّر أيضاً عن «الجمالية القصوى». وها هنا يقول مدير المتحف الفلسطيني عامر الشوملي: «في حالة "هذا ليس معرضاً"، يظهر "صالون ستايل" استعراض كثافة الإنتاج في مواجهة المشروع الاستعماري، وكانت محاولاتنا في تصميم طريقة العرض لتكون كتظاهرة فنية، معرض حي، بالإمكان إضافة لوحات وأعمال وعدم التكلف في طرق العرض».
ضمّ «هذا ليس معرضاً» أكثر من 286 عملاً فنياً لنحو 100 فنان من قطاع غزة، واحتاج إلى جهد كبير في جمع الأعمال من بيوت، وصالات عرض، ومؤسسات، وجامعات. ساهم في المعرض 50 بين أفراد ومؤسسات أعاروا الأعمال التي لديهم للمتحف.
(رائد عيسى. إكريليك على ورق، 80×109.5سم، *عمل متضرّر جرّاء القصف) بإذن من «مجموعة جورج الأعمى» (بعد قصف منزله في عدوان 2014 قرّر رائد عيسى (شقيق القيادي مروان عيسى) عدم ترميم هذه اللوحة، لتصبح الشظايا جزءاً من اللوحة».

ووسط هذا العرض هناك تجهيز «يظهر كمشهد مبتور قابل للتأويل. فمع بداية أحداث 7 أكتوبر ظهرت كمية انسلاخنا وعدم ارتباط الثقافة والفنون في مشروع المقاومة، لذلك تجمّد المشهد الثقافي وتحولت المعارض إلى صالات لعرض إخفاقنا الذي عبّرنا عنه بركام المعرض السابق، والركام بحد ذاته عمل فني للفنان الغزي عامر أبو مطر». وإلى جانب «هذا ليس معرضاً» تقدّم التظاهرة الفنية من أجل غزّة معرض «نساء غزة» وهو عرض إثنوغرافي لأثواب وحُليّ تراثيّة تروي قصّة نساء غزّة بين الإبداع والتهجير والتكافل، ومعرضاً فردياً للفنان تيسير بركات بعنوان «المفقودون» الذي يقدم فيه الفنان عالماً مبنيّاً على فقدان الحياة بألفتها المعهودة، وفقدان الإحساس بالزمن، وخسارة المكان. حيث تعيش شخوص اللوحات، التي تتوزّع في ثلاث مجموعات، هي: «التّيه»، و«أطياف»، و«عالم قيد التكوين»، في عالمٍ قوامه الخراب: شخوص اللوحات هامشيّة تراقب من بعيدٍ أحياناً، وهائمةٌ أحياناً أخرى، وجوهها بلا ملامح، وعيونها لا ترى، وحركتها بلا وتيرةٍ واضحة.

بدأ التفكير في «المفقودون» بالنسبة إلى تيسير بركات من قصة شخصية من الطفولة حين فقد عمه المقاتل بعد دخوله إلى الأرض المحتلة عام 1956، وكانت جدته يومياً تخرج في الصباح إلى ناصية شارع في مخيم جباليا تنتظر عمه الذي لم يعد حتى وفاتها عام 1981. وبعد حرب 2008-2009 تحول هذا الشعور إلى قضية جماعية مع وجود أعداد من الشهداء المفقودين تحت الركام، كما هو الحال في هذه الحرب حيث هناك سبعة آلاف من المفقودين.
(دينا مطر، بلا عنوان، 2020. إكريليك على قماش، 53×69 سم) بإذن من مجموعة «باب الدير»

يمكننا فهم تاريخ الفن التشكيلي في غزة ضمن ثلاثة أجيال من الفنانين/ات؛ جيل النكبة أو الرواد أمثال: ليلى الشوا (1940-2022)، شفيق رضوان (1941)، بشير السنوار (1942 – 2017)، كامل المغني (1943 – 2008)، عبد الرحمن المزين (1943)، فتحي غبن (1947-2024) تهاني سكيك (1956). ويمكننا إضافة إليهم فايز سرساوي (1961). هؤلاء كان لهم دور في تشكيل الهوية البصرية الفلسطينية وهم استظلوا بإرث إسماعيل شموط (1930 -2006) اللاجئ في مخيم خانيونس والذي قدّم أول معرض في حياته الفنية عام 1953 في نادي الموظفين في مدينة غزة. وكان لهذا الجيل الدور في تأسيس البنية التعليمية لتعليم الرسم والفنون في قطاع غزة. فهناك فضل كبير لكامل المغني في تأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة النجاح الوطنية في نابلس التي بدورها أنشأت الجيل الذي قام بتأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى في غزة. وفايز سرساوي الذي كان قد تخرّج في إسطنبول وتخصّص بالنحت، وعاد إلى فلسطين في فترة ما قبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى ليساهم في إثراء برنامج الفنون الجميلة في «جمعية الشبان المسيحية».

أمّا عن الجيل الثاني فكان معظم أبنائه من خرّيجي الجامعات الفلسطينية، بالتحديد جامعة النجاح، أمثال تيسير بطنيجي (1966)، هاني زعرب (1976)، رقية اللولو (1981)، ميسرة بارود (1976)، معتز نعيم (1973)، أيمن عيسى (1974). إضافة إلى هذا هناك تأثير كبير للفنان السوري مروان قصاب باشي في تشكيل وعي هذا الجيل من الفنانين الفلسطينيين، في «دارة الفنون – مؤسسة خالد شومان» في الأردن، حيث قام قصاب باشي بالإشراف على «أكاديمية دارة الفنون الصيفية» في عام 1999، التي استقطبت عدداً من الفنانين في العالم العربي، فساهمت هذه الأكاديمية في إضافة خبرات وتقنيات مثل الحفر واستخدام أدوات ومواد جديدة، إضافة إلى حوارات ثقافية وشبكة علاقات فنية عربية، ومن فناني غزة الذين شاركوا في هذه «الأكاديمية» الفنان محمد الحواجري. أما عن الجيل الثالث فهو جيل الحصار الذي قد تشكّل وعيه بعد عام 2007، والتفّ حول «شبابيك» و«التقاء»، وارتبط بحركة الفنون في العالم التي يمكن متابعتها عبر الإنترنت، ونظراً إلى ظروف الحصار الخاصة في غزة، تعتبر الأدوات الفنية الجديدة ملاصقة لأعمال هذا الجيل، مثل: فن «فيديو آرت» والأوديو والفيديو الأدائي، والتصوير الفوتوغرافي، والفن التركيبي، والكولاج الرقمي، وأشكال متعددة من النحت، كأعمال الشهيدة حليمة الكحلوت التي استشهدت في 30 تشرين الأول 2023. مع التأكيد أن اللوحات بالمعنى التقليدي «كانفاس» أو «ورق» هي المسيطرة على المشهد.
(شهد نافذ، فلسطين عبر التاريخ. إكريليك وألوان مائيّة على قماش، 80×60 سم) بإذن من مجموعة «غاليري بوّابة بيت لحم»

«هذا ليس معرضاً» مكان قابل للتأويل، فيه الكثير من السحر، يطمح أن يكون جزءاً من مشروع صمود وانتصار المقاومة الفلسطينية في غزة. وهو «معرض لا يتقصّد عرض أعمالٍ فنيّةٍ بعينها لفنّانين بعينهم، فلا أحد يملك أن يفعل ذلك الآن، إذ إنّ مجرّد التواصل مع الفنّانين الغزيّين أمر يكاد يكون مستحيلاً، فهم، مثل باقي الناس في غزّة، يجابهون حرب الإبادة الجماعيّة، ويعانون بؤس النزوح والجوع والبرد، وقد تركوا بيوتهم ومراسمهم خلفهم، مدمّرةً أو تنتظر، وقد أودعوا أعمالهم الفنيّة في مهبّ النار والقصف والموت. أمّا من يقطن منهم خارج غزّة، فقلوبهم تنفطر على معاناة أهلهم، أهلنا، ومصائرهم. كلّ هذا يجعل من مجرّد الحديث عن الفنّ الآن يبدو انفصاماً عن الواقع، كما يجعل التفكير في إنجاز معرضٍ بالطُّرق المعهودة ضرباً من العبث والترف»، كما يقول بيان المعرض.
أمّا أغرب ما في اللوحات المعروضة في «هذا ليس معرضاً»، فغياب رموز المقاومة في اللوحات، صحيح أننا نرى لوحات عن «الانتفاضة الأولى» تحتفي بالحجر وتحوّله إلى رمز بصري ثوري، إلا أن رمزيات المقاومة مثل البندقية والصاروخ والنفق، وحتى رمزيات المقاومة الشعبية لا تظهر في اللوحات، وهذا له تفسيرات عدة منها أن خروج اللوحات من غزة إلى الأرض المحتلة يتطلب جهداً كبيراً، وفيه مرور على حواجز وفحص أمني للاحتلال، وعادة ما تقوم بعمليات نقل الأعمال الفنية مؤسسات دولية. أمّا القراءة الأخرى، فهي أن رموز المقاومة انتقلت إلى رموز بصرية في الملصقات وفي الأعمال في الفضاء العام، مثل الغرافيتي والأعمال التركيبية، لكنها لم تنتقل بعد إلى اللوحة. ومع هذا نجد في لوحة الشهيدة شهد نافذ «فلسطين عبر التاريخ» كل التحدي للمعايير السابقة، ففيها مشهد من ثورة القسام عام 1935 إلى جانبه مشهد الاشتباك الأخير للشهيد عدي التميمي الذي استشهد في عام 2022، وأكثر ما يدعو للحزن والتأمل استشهاد شهد الذي كان وكأنه متنبّأ به في اللوحة ذاتها.