... وقعت الواقعة: تخطيط عبقري وتنفيذ دقيق، فكان هجوم 11 أيلول 2001. فأعلن جورج بوش الابن حربه «الصليبية» والهدف هو القضاء على «طالبان» و«القاعدة». حينها، ظهرت نظرية المؤامرة، بأن هناك تنسيقاً بين الاستخبارات الأميركية وأسامة بن لادن، ليكون الهجوم ذريعة لاحتلال أفغانستان ومن ثم العراق؛ وأنه لولا العملية الكبيرة في مانهاتن لما كان إعلان الحرب الأميركية. هذا ينطبق على ما يقال على عملية «طوفان الأقصى»، لا بل إنه بعد أكثر من عقدين على احتلال أفغانستان، تكشّفت حقائق، أبرزها أن خطة الغزو وضعت على طاولة جورج بوش الابن قبل أحداث 11 سبتمبر، وأن شركة النفط الشهيرة «UNOCAL» عملت على ذلك بعد فشل مفاوضاتها مع حركة «طالبان» للسماح لها بإنشاء خط أنابيب غاز من دول بحر قزوين إلى المحيط الهادئ.
(العزيز عاطف)

وقال مسؤولو الشركة لـ«طالبان»: «إما أن نغطيكم بالذهب أو بالموت، فما عليكم إلا الاختيار». والأهم أن رئيس أفغانستان بعد الاحتلال، حامد كرزاي، كان أحد أبرز مستشاري الشركة. وإذا ربطنا بين نائب الرئيس الأميركي (بوش) ديك تشيني وإدارته لشركة «هاليبرتون» المتخصصة بالطاقة والنفط، و«عقودها المليارية» بعد ذلك، يمكن معرفة العلاقة بين الحرب والغنائم والمؤامرة الحقيقية. وربما هذا ما يتضح أكثر إذا وضعنا خطط غاز غزة و«ممر بايدن» من الشرق الآسيوي إلى غرب أوروبا والصراع الدولي، فيصبح «طوفان الأقصى» معرقلاً لمشاريع كبرى وليس ممهداً لها.
■ ■ ■

في البداية: في السابع من تشرين الأول 2001 (اليوم نفسه لحرب غزة الحالية) بدأت الولايات المتحدة الأميركية رسمياً عملياتها العسكرية في أفغانستان، وشاركت 51 دولة في العدوان بما في ذلك حلف شمال الأطلسي. دمرت قاذفات «بي 52» كل المؤسسات والمراكز، وغيّرت التضاريس الجغرافية، ونزل «المارينز» على الأرض؛ وبعدها شكّلت واشنطن حكومة تابعة لها وقتلت قادة «طالبان».. وبقية القصة معروفة.
في النهاية: القوات الأميركية تنسحب من أفغانستان، ومشهد الطائرات وتعلّق المتعاونين بها لا يمكن نسيانه. وفي ساعات قليلة، سقط الجيش والحكومة، و«طالبان» تحرّر كل البلاد.
■ ■ ■

تتفق مع فكر «طالبان» أو تختلف، لكن لا يمكن إنكار أنهم من أهل الأرض، وأن قتالهم لأكثر من 20 عاماً نموذج وجب التفكير به بحيادية وموضوعية. وعليه يبدو أن الانتصار اعتمد على ثلاث خطوات أساسية يمكن إسقاطها على واقع غزة حالياً:
البقاء والمبادرة: كانت الخطة أمام الهجوم الغربي الكاسح، هي البقاء على قيد الحياة أولاً والتخفي الجيد ثانياً. وعلى الرغم من القصف الشديد على هلمند وطورا بورا وقندهار وكل الولايات الأفغانية، تمكن المقاتلون من الاختفاء وإبقاء التواصل بينهم وتحوّل الجيش «الطالباني» إلى وحدات عنقودية ترى ما يناسب الميدان في الدفاع والهجوم. ووفقاً لهذا الواقع، كان لا بد من تأمين البيئة الحاضنة وتواصل الإمداد إلى الكهوف. وعلى الرغم من الانقسام بين أطياف الشعب الأفغاني بين مؤيد للاحتلال ورافض له، رجّحت الكفة نحو من لم يستسلم.
التكتيك الاستراتيجي: كان لا بد من الصبر في الميدان والسياسة، واختيار العمليات الهجومية وتوقيتها المناسب وحجمها الملائم. هكذا تحوّل الميدان إلى استنزاف للقوات الغازية على الصعيد البشري والمادي والاقتصادي والأخلاقي. وأصبح استخدام تكتيك حرب العصابات ينسحب تدريجياً إلى تحرير مناطق كثيرة، ولا سيما في الأطراف.
المرونة والتنظيم: تمكنت «طالبان» من إدارة الصراع بكل جوانبه، وبقيت متمسكة بموقفها منذ اليوم الأول: على أميركا أن تخرج من أفغانستان. هذا طبقته بمرونة تامة أثناء المفاوضات مع الأميركيين سراً وعلناً، وأضحى الميدان مسانداً للعمل السياسي. أما الخطوة الأبرز فكانت حكومة الظل لـ«طالبان»، فعند الانسحاب الأميركي تمكنت الحكومة من السيطرة المباشرة وإدارة البلاد بسهولة تامة.
■ ■ ■

أكثر من عقدين، لا شيء بعمر الشعوب، والجميع عاد إلى المربع الأول، أي قبل إعلان الحرب. وهذا ما هو متوقع في غزة، لا بل إن الأرض الفلسطينية لا يمكن مقارنتها بأفغانستان. إنما التماثل بقضية الاحتلال والتغوّل العسكري يثبت أن من يقاوم ينتصر في النهاية إذا امتلك صبراً ودعماً وخطة للمواجهة. ولأن الاحتلال لا يمكنه البقاء في حالة استنزاف، يرضخ دائماً والتجارب كثيرة، وإن كان يفكر بنيامين نتنياهو وصحبه يفكرون بالبقاء في غزة، فستكون مقبرتهم ولو استمر العدوان لسنوات. فهي مسألة وقت حتى يصرخ الجميع: أوقفوا النزف. وحتمية النصر كما حصل في كابل، تتجسد تلقائياً في غزة، ويمكن أن تمتد إلى ما بين النهر والبحر، فالفلسطيني كرّار بطبعه، ولم يعرف الفرار بوعيه الجمعي، وكلما استكان عاد للهجوم. ووسط الإحباط الجماعي من المجازر المتنقلة، يبقى اليقين بالنصر هو المحفز الأساسي، فليس مهماً أن تخسر بالتكتيك، الأهم أن تربح بالاستراتيجيا. وهذا ما يحذّر منه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن القادة الإسرائيليين من الاستمرار في قتل المدنيين، بمطالبتهم بحماية المدنيين لأنهم بغير ذلك «يخاطرون باستبدال نصر تكتيكي بهزيمة استراتيجية»، وأوستن لا يقصد المدنيين لأنه لا يخاف علينا بكل الأحوال، إنما يقصد الاستمرار في الحرب بشكل عام. فهو أكثر من يعرف أن الجيش الأميركي قتل مئات آلاف الفيتناميين في خلال 9 سنوات، واضطرّ إلى الانسحاب، وكذلك حصل في عقدَي أفغانستان وفي أماكن أخرى. العبرة هنا في النتائج البعيدة المدى، وفي حالة غزة قريبة جداً.


كلفت حرب أفغانستان الخزانة الأميركية، 2.261 تريليون دولار، بما يقارب 16 ألف دولار لكل دافع ضرائب فيدرالي، بحسب تحليل «مشروع تكاليف الحرب» (Cost of War) في جامعة براون.
ويبيّن التحليل أن 241 ألف شخص قتلوا في حرب أفغانستان، بينهم 2442 جندياً أميركياً، وانتحر أضعاف هذا الرقم. كما قتل نحو 4 آلاف متعاقد أميركي، و1150 شخصاً بين عسكريين ومتعاقدين من دول التحالف الدولي، ونحو 141 ألف أفغاني، بينهم 43 ألفاً من «طالبان»، وقرابة 60 ألفاً من عناصر الشرطة والجيش الأفغاني، فضلاً عن 38 ألف مدني أفغاني.
كما أصيب في الحرب 40 ألف أميركي، ومئات الآلاف من الأفغان. ولا تشمل هذه الأرقام أقلّ الوفيات غير المباشرة الناجمة عن الجوع والمرض ونقص المياه، وأكثر من ذلك الناجمة عن الأضرار التي لحقت بها خلال الحرب.