«حملة اعتقالات»، المصطلح الذي يرتبط دائماً بأيّ حالة تصعيد في الأراضي الفلسطينية، سواء كانت هبّة أو تصاعداً للمقاومة في الضفة الغربية، أو عدواناً على قطاع غزة. إذ جرت عادة الاحتلال على أن ينفذ حملة اعتقالات احترازية في الضفة الغربية مع أيّ توتر ضمن السياسة الإسرائيلية المعروفة المسمّاة «جز العشب».تستهدف حملات الاعتقال المرتبطة بالتوتر والتصعيد «العناصر» التي يمكن أن يكون لها إسهام في مجريات الأحداث، عبر المشاركة في أعمال المقاومة أو الاحتجاجات، أو «التحريض» بحسب ما يطلق الاحتلال على التفاعل مع الأحداث على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذه الحملات المتكررة، يكون الأسرى السابقون أو ما يطلق عليهم «الأسرى المحررون»، هم الأكثر عرضة للاعتقال، لأنهم دائماً على رادار أجهزة أمن الاحتلال، يخضعون للمراقبة والاستدعاءات المتكررة لمقابلة ضباط المخابرات الإسرائيلية (الشاباك)، لإيصال رسائل لهم بأنكم دائماً «تحت أعيننا». إذ تنظر أجهزة أمن الاحتلال إلى الأسرى السابقين على أنهم عناصر خاملة، يمكن أن تنشط في لحظة ما، أو أنهم نشطون أصلاً بطريقة غير معروفة لديه.
(زهدي العدوي)

على أي حال، لا يواجه كل الأسرى السابقون هذه السياسة، فهي مسألة تخضع لعدة اعتبارات، منها: حداثة عهد الأسير بالسجون، فكلما كان تاريخ تحرّر الأسير قريباً، كان احتمال اعتقاله أعلى، ومنها أيضاً نوعية التهم التي اعتقل بسببها، والتنظيم الذي يحسب عليه، وعدد مرات الاعتقال السابقة، وقرب الأسير السابق أو بعده عن النشاط الوطني أو السياسي. فكل هذه العوامل تكون مؤثرة في اشتمال أحد الأسرى في حملة اعتقالات مرتبطة بتصعيد ما، واحتجازه احترازياً رهن الاعتقال الإداري في أغلب الأحيان.
الذي اختلف في ظل العدوان وحرب الإبادة الحالية، التي أعقبت عملية «طوفان الأقصى»، أن حملة الاعتقالات التي بلغت ذروتها في الأشهر الأولى، كانت شرسة بطريقة غير مسبوقة منذ ما بعد الانتفاضة الثانية، حتى إنها فاقت مرحلتَي الانتفاضتين في جوانب عديدة. إذ ناهز عدد المعتقلين منذ بداية حرب الإبادة 8 آلاف معتقل، بحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وهذا العدد يبلغ ضعف عدد المعتقلين عام 2022 الذي استقر عند 4500 معتقل، وهو عام شهد تصاعداً في العمل المقاوم في الضفة الغربية.
غير أن ما ميّز هذه الحملة، إضافة إلى الأعداد غير المسبوقة، هو أنها ترافقت مع دعاية صهيونية تستهدف بث الذعر والخوف، والردع تباعاً في أوساط المجتمع الفلسطيني. إذ أخذت قوات الاحتلال تنفذ حملات اعتقالات بطرق اعتقال استعراضية، فتتعمّد تنفيذ الاقتحامات والاعتقالات باستعراض مبالغ فيه، مع تصويرها ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة على صفحات «فايسبوك» التابعة لضباط «الشاباك» الموجّهة لكل منطقة أو قرية على حدة، باسم وهمي لأحد ضباطهم، المسؤول عن المنطقة.
ومما يفعله، تصوير عملية الاعتقال التي يتخلّلها الاعتداء، وضرب المعتقلين وإهانتهم والتنكيل بهم، واعتقال الأسرى حفاة أو بملابسهم الداخلية، أو إجبارهم على نزع «سترهم» في أيام الشتاء البادرة، قبل أن يخرجوا من بيوتهم للاعتقال. ومن ذلك أيضاً، تجميع عشرات المعتقلين في آلية عسكرية، أو في أحيان كثيرة، في منزل إحدى الشخصيات الوطنية المحسوبة على أحد التنظيمات، وتصويرهم برفقة صاحب البيت المعتقل أيضاً، ونشر الصور بنوع من الاستهزاء والإذلال. وقد ترافقت الاعتقالات أيضاً مع سرقات متعددة للأموال أو مجوهرات النساء، وأحياناً مصادرة السيارات الشخصية للمعتقلين، وتفتيش البيوت، وتخريب محتوياتها. أيضاً، تتعمّد قوات الاحتلال نشر صور المعتقلين إلى جانب علم إسرائيل، وإجبارهم على حمله أو تقبيله أو الرقص به. ونشر صور لمعتقلين تظهر عليهم آثار التعذيب، وقرن اعتقالهم بمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي مؤيدة للمقاومة أو متفاعلة مع الوضع العام والحرب، أو صور لمحادثات خاصة على وسائل التواصل. كما أن هناك مقاطع مصوّرة بثّت وفيها أسرى عرّوا تماماً، وينهال عليهم جنود الاحتلال بالضرب والتعذيب.
وضمن حملة الرعب، أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال زوجات الأسرى، أو أخواتهم أو أمهاتهم، أو أبنائهم وإخوتهم وآبائهم، لاتخاذهم رهائن في حال أرادوا اعتقال أحد الشبان، ولم يجدوه في بيته، ليربطوا الإفراج عنهم بتسليم نفسه لهم. هذا فضلاً عن تعذيب الأسرى خلال اعتقالهم وضربهم ضرباً مبرحاً، والواقع الخطير جداً في السجون، الذي أدى، من بين ما أدى إليه، إلى استشهاد ما لا يقل عن 15 أسيراً نتيجة التعذيب أو الحرمان من الدواء وغيره.
أسهمت هذه الانتهاكات الخطيرة، غير المعهودة في زمننا هذا، في بث حالة من الذعر والخوف في عموم المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، وهو ما كان له أثر في تفاعل الشارع مع الحرب، وتطوراتها، سواء على مستوى التظاهر والاحتجاج أو على مستوى التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن أكثر فئة شعرت بالخوف من جراء هذه الانتهاكات هي فئة الأسرى المحررين. فطوال السنوات السابقة، التي شهدت أكثر من عدوان على قطاع غزة، أو تصاعداً في الفعل المقاوم في الضفة الغربية، كان يجدي أن يقول أحد الأسرى السابقين إنه ابتعد عن ممارسة أي نشاط سياسي، فهو في مأمن من الاعتقال في حال حصول حملة اعتقالات. لكن هذه المرة، لم يعد ذلك مجدياً، إذ امتازت الاعتقالات بطابع انتقامي، ومحاولة استئصال شأفة حركات المقاومة، طالت حتى أولئك الذين كانوا قد ابتعدوا عن ممارسة أي نشاط سياسي منذ سنوات.
كان التوتر والقلق بادياً على الأسرى السابقين، كلما قابلت أسيراً سابقاً، كان يحدّث عن مخاوفه من إعادة اعتقاله مستحضراً مشاهد التعذيب والإهانة، وأخبار ظروف الأسرى في السجون. كانت ساعات الليل أشد وطأة من غيرها، إذ اعتاد الاحتلال على تنفيذ حملات الاعتقال في ساعات الليل المتأخر، غير أنه في هذه الحرب وسّع ساعات اقتحاماته، إذ تبدأ أحياناً من وقت العشاء، وأحياناً في ساعات الصباح الباكر، وأحياناً في منتصف النهار. ما جعل الأسرى السابقين يشعرون بأنهم مهددون بإعادة الاعتقال طوال الوقت. لكن ما إن يحل المساء حتى يتضاعف القلق والتوتر، إذ تتزايد احتمالات اقتحام قوات الاحتلال، ويبدأ الأسرى السابقون بمتابعة قنوات «تلغرام» المحلية، التي يتناقل عليها شبان البلدات والقرى والمخميات أخبار اقتحامات الاحتلال وتجمعات آلياته تجهّزاً للاقتحام. ويتابعون كل وسائل الإعلام، إذا ما كان الاحتلال قد أبلغ الارتباط الفلسطيني بأنه سيقتحم إحدى المناطق. بيد أن هذه لم تكن تصيب دائماً، فقد غيّر الاحتلال عاداته، وأخذ ينفّذ اقتحاماته من دون أن يرسل إشعاراً للارتباط الفلسطيني، حتى تنسحب الأجهزة الأمنية الفلسطينية من الشوارع، لتخليها لقوات الاحتلال لتفعل ما بدا لها.
وإذ ورد خبر بأن قوات الاحتلال أبلغت عن نشاط لها، أو تتهيأ للاقتحام، يسارع إلى ارتداء الملابس والحذاء، تحسباً لأي طارئ. ويتأهب لمسح تطبيق «تلغرام»، الذي أصبح تهمة بحد ذاته، أو حذف أي صورة أو مقطع أو حتى رسالة فيها إشارة إلى الحرب ولو من بعيد.
كثيراً ما اقتحمت قوات الاحتلال قرى ومخيمات على حين غرة، يكون الأسير السابق قبلها قد أمضى ليله الطويل يترقب خبراً عن تبليغ عن اقتحام أو تجمع لآليات الاحتلال في أحد المعسكرات القريبة من منطقته، لكن ما إن يطمئن في ليلته تلك، ويحاول أن يهرب إلى نومه، حتى يستيقظ مسرعاً على خبر أن قوات الاحتلال اقتحمت منطقته على حين غرة. يجافيه النوم مترقّباً متوجساً، يتنقل بين قنوات «تلغرام»، يتابع من خلالها تحركات قوات الاحتلال شارعاً بشارع وبيتاً ببيت. ثم يأتي خبر انسحاب قوات الاحتلال بعد اعتقال أحد الشبان، يقول لقد نجوت الليلة، ليعيد الكرّة في الليلة الأخرى.
لا تقتصر حالة القلق والتوتر هذه على الأسير السابق وحده، وإنما تطاول أهله وعائلته، فهم دائمو القلق على أبنائهم، ويترقبون معهم طوال الليل، فكيف تنام الأمّ أو الزوجة أو الابنة أو الأب وهم يدركون أن أحداً من أفراد العائلة قد يتعرض للاعتقال هذه الليلة، وإن كان كثير منهم قد اعتاد أن يسجنَ أحد من العائلة، فإنهم لم يدركوا أن ظروف الاعتقال قد تغيرت، وقد تؤدي إلى استشهاد الأسير في سجنه. وإلى جانب ذلك، فأهالي الأسرى كانوا يخشون من حالات الاعتداء على أهالي المعتقلين، وتخريب الممتلكات، وسرقة المقتنيات والأموال التي يمارسها جنود الاحتلال بلا رقيب أو حسيب.
وانتاب الأسرى السابقين خوف من التنقل بين القرى والمدن والمحافظات خشية من حواجز الاحتلال، ولا سيما «الطيارة» منها التي شهدت اعتقال عشرات الفلسطينيين أو الاعتداء عليهم بالضرب المبرح. وأيضاً أحجم عدد منهم عن السفر والمرور على معبر الكرامة، إذ إنهم، في الأوضاع الطبيعية، كانوا يتعرضون لمضايقات أثناء مرورهم عليه، مثل مقابلة مخابرات الاحتلال لهم، أو إجبارهم على الانتظار طويلاً قبل أن يسمح لهم بالمغادرة أو العبور، فكيف ستكون الحال في ظل هذه الظروف؟
بشكل عام، أجبرت حملة الاعتقالات وما رافقها من استعراض وانتهاكات على فرض نوع من الرقابة والضبط الذاتي لتحركاتهم ومنشوراتهم على وسائل التواصل وتعاطيهم مع الأحداث، وكأنهم بذلك أصبحوا أسرى مع وقف التنفيذ.

* باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية - رام الله