أخيراً، انضمّ جثمان الشهيد الأسير وليد دقة إلى زملائه في غرفة ثلاجة الموتى. بطبيعة الحال، وبحكم الأقدميّة، سيكون بانتظاره في البهو القاتم الأسير الشهيد أنيس دولة.أمسك ابن قلقيلية، الذي نقل إلى مشرحة أبو كبير بعد استشهاده في زنزانته في سجن عسقلان صيف عام 1980، بيد وليد. وقال له: كنا بانتظارك، لقد قاومت داءك طوال سنوات ثلاث. يتعيّن عليك يا أبا ميلاد أن تخبرنا الكثير عن تجربتك في مواجهة عدوّين اثنين: مرضك والجلاد. وعليك أن تخبرنا عن تهريبك لنطفتك خارج الأسر، والتي أثمرت إنجاب زوجتك سناء لطفلتكما ميلاد. زملائي الشهداء هنا يتوقون إلى معرفة كل شيء جرى خارج الغرفة الباردة هذه. لكن دعني في البداية أن أقدّم لك تعريفاً بسيطاً عن طبيعة الأسر في ثلاجة.

لن يتعيّن عليك الوقوف ثلاث مرات في اليوم من أجل «تعداد» الأسرى، وطبعاً لا «فورة» تخرج إليها (ساحة الشمس). لا وجبات طعام، ولا لقاء بمحام، حتى كما تلاحظ لا داعي لتستعير قميصاً من زميلك كي تخرج لزيارة الأهل. كلّنا عراة. لا توجد زيارات بين الغرف والأقسام ولن تكتب رسالة، ولن تستمع إلى أغنية، ولن تخفي هاتفاً مهرّباً إلى السجن لتجري منه مكالمة خاطفة مع من تحب أو ترغب. وهناك مسألة أخرى أريد إطلاعك عليها، أنا بقيت وحيداً هنا طوال 28 عاماً قبل أن ينضمّ إليّ زميلنا الشهيد عزيز عويسات من جبل المكبر. إنه هناك، صحيح أنه لا يقوى على الحركة، فقد تعرّض لنزف حادّ في الدماغ جرّاء الاعتداء عليه في سجن «إيشل»، عويس دخل في غيبوبة، رفض يومها مستشفى «تل هاشمير» استقباله وتقديم العلاج له، الأمر الذي أدّى إلى نقله إلى هنا.
اعلم أن العقاب الأشد لك أنك لن تمسك بقلم ولن تقرأ كتاباً، ولن تدخل في نقاش هادف مع أحد. فالصمت الذي يحكم المشرحة الباردة ستعتاد عليه. أبا ميلاد، باختصار، الاعتقال هنا محكوم بمسألتين، هما: «البرد» و«العتمة»، ولا شيء آخر. الباب الذي يفتح، يفتح فقط لإدخال «جثمان جديد».
هذا هو زميلك السابق فارس بارود، كان معك في سجن عسقلان طوال 18 عاماً، هل تتذكّره؟ فارس كان يحكي كثيراً عن نخلة السجن في عسقلان، وعن رائحة زهر الليمون في الربيع. وعن السنوار وأبو إبراهيم وصلاح شحادة وأبو السعود والقطاوي ونضال زلوم وسفيان أبو زايدة وأبو ماهر وإسماعيل أبو شنب وشباب الجولان ولبنان والأردن.
وليد، تعال أريد أن أعرّفك على شخص بالتأكيد سمعت عنه، نصّار طقاقطة من بيت فجّار قرب بيت لحم، هل يوحي لك الاسم بشيء؟ ألا يذكّرك نصّار بقائدك ومسؤولك الشهيد إبراهيم الراعي الذي قضى تحت التعذيب. نصّار مثل «فوتشيك فلسطين» (لقب أطلق على إبراهيم الراعي) لم يعترف للمحققين حتى باسمه، ظلّ يضرب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. هناك، بجانبه، الشهيد بسام السائح من نابلس، بسام أصيب بالسرطان في دمه وعظمه واستشهد إثر ذلك في مستشفى «أساف هروفه»، جاء إلينا في العام نفسه مع نصّار، بفارق شهرين فقط عن بعضهما، لذا تجاورا في الممات.
على هذه الجهة الأسيران الشهيدان سعدي الغرابلي من حيّ الشجاعية في غزة وكمال أبو وعر من قباطية قرب جنين. لا تقل لابن الشجاعية إنّ الحيّ دمّر بالكامل في العدوان المستمر على غزة، هو بيننا جراء التدهور الرهيب لحالته الصحية، أما ابن قباطية فقصته محزنة جداً، لقد أصيب الرجل بفيروس «كورونا» وهو أصلاً يعاني من سرطان في الحنجرة. أترى! الهواء لا يصل إلى السجن، إلا أن «كورونا» وصلت إليه وحصدت أسيراً. وهذا سامي العمور من دير البلح نقل إلى هنا في عام 2021، سامي اعتقل في عام 2008 ولم يسمح لعائلته بزيارته، فأقفل عينيه قبل 13 عاماً على آخر صورة لهم.
هؤلاء هم زملاء الشهادة، كما تلاحظ يا وليد، الشيء المشترك بينهم وبين الأحياء الموزعين داخل الأكياس الحجرية الرطبة، أن لكل واحد منهم سيرة، حكاية ما


الأسيران الشهيدان هناك لا شك أنك سمعت عنهما. هذا داود الزبيدي ابن مخيم جنين الذي خاض الاشتباك مع جنود الاحتلال، واعتقل مصاباً ليفارق الحياة بعد يومين من ذلك. أمّا الثاني، فهو ناصر أبو حميد الشاب الشجاع من رام الله الذي تربّص به الاحتلال فقام بتصفيته داخل المعتقل.
متعب أنت يا وليد، وكذلك أنا، لكن يجب أن تعرف مع من أنت. هذا الرجل الذي يبيت خلف الباب الحديدي، الشيخ خضر عدنان. ما خاضه ابن عرابة من إضراب مفتوح عن الطعام لمدة 86 يوماً رفضاً للاعتقال الإداري، يسجّل له فعلاً كعمل مميّز. «يا أخي» موضوع الاعتقال الإداري بدعة سلطات الاحتلال هذه، حطمها الشيخ بجوعه. لكن الاحتلال ظلّ يمارسها ويمضي في تحدّيها أسرى غيره، وهو ما حصل أيضاً مع محمد أحمد راتب الصبار المعتقل إدارياً لأكثر من سنة. استشهد ابن الظاهرية في الخليل نتيجة الإهمال الطبي أيضاً.
بيننا الآن يا وليد أسرى جدد. إنهم أسرى «طوفان الأقصى». هؤلاء لم يتسنّ لهم التعرف على تجربة المعتقل كما خضتها أنت بكل مراحلها. هذا عمر دراغمة ابن طوباس اعتقل بعد أيام من «الطوفان» وجرى تحويله إلى الاعتقال الإداري. ذهب إلى سجن مجدو، إلا أنه فارق الحياة في العيادة. محاميه قال إنه كان بصحة جيدة، ولم يكن يعاني من الأمراض، وكان على موعد عبر تقنية «الكونفرنس» مع محكمة سجن عوفر في اليوم نفسه. ما حصل مع عمر حصل أيضاً لعرفات حمدان من بيت سيرا قضاء رام الله، الرجل اعتقل بتاريخ 22/10/2023، وزج به في سجن عوفر، إلا أنه فارق الحياة بعد يومين في عيادة السجن. أيضاً جمعة أبو غنيمة من النقب، وعاصف الرفاعي من كفر عين، ظلّا في وضع صحي خطير لأيام بعد اعتقالهما حتى فارقا الحياة جراء التعذيب. تعذيبٌ حتى الموت، حصد كذلك حياة كل من عز الدين زياد عبد البنا وأحمد رزق قديح وهما من غزة.


أتعلم يا وليد بيننا هنا من كل شرائح المجتمع الفلسطيني. لدينا أيضاً كما تسمّيهم أنت في أدبياتك اليسارية «عمّال كادحون». هذا ماجد أحمد زقول من غزة، عامل اعتقل بعد 7 أكتوبر، ظل اعتقاله مجهولاً حتى أعلن عن استشهاده عبر وسائل إعلام إسرائيلية. وهذا الأمر ينطبق على الشهيد الآخر الذي هنا وهو مجهول الهوية.
هؤلاء الذين هنا، عبد الرحمن أحمد محمد مرعي من سلفيت، وعبد الرحمن باسم البحش من نابلس، جرت تصفيتهما في سجن مجدو أيضاً. في حين أن ثائر سميح أبو عصب من قلقيلية فارق الحياة في سجن النقب الصحراوي. ثائر لم تلتقه في النقب يا وليد، أنت ذهبت إلى سجن نفحة بينما هو اعتقل منذ عام 2005 وكان ينتظر الإفراج عنه في 2030.
في جسد خالد الشاويش 11 رصاصة، أمضى حياته في المعتقل في نفحة منذ عام 2007 يعاني من شلل نصفي، لم يتحمّل، عانى ظروفاً نفسية قاهرة فـ«فقع قلبه».
هؤلاء هم زملاء الشهادة، كما تلاحظ يا وليد، الشيء المشترك بينهم وبين الأحياء الموزعين داخل الأكياس الحجرية الرطبة، أن لكل واحد منهم سيرة، حكاية ما. صحيح أنهم لا يتحركون، وأن سلطات الموت قد استرجعت أرقامهم ووضعتها في صدر الكوّة الحديدية الباردة، إلا أنهم ليسوا بمنسيّين. لهم من يحمل أسماءهم نيابة عنهم، تماماً كما تحمل صغيرتك الجميلة ميلاد اسمك عنك.
فيا أبا ميلاد، أعرف أنك تحب الضوء والهواء. لكن، يفترض بي أن أكون قد بلغت من العمر 80 عاماً لو أني على قيد الحياة، ومضى على اعتقالي 56 عاماً، 12 منها أمضيتها في سجن عسقلان و44 عاماً في الثلاجة. لقد تقدّم عليّ الزمن كثيراً يا رفيقي، عليك أنت الآن أن تتحمّل مسؤولية زملائك في حفرة الموت والبرد والعتمة، ريثما تنقل رفاتنا إلى التراب الدافئ.

* أسير محرر