متوفى حتى إشعار آخر
ابن خالي «علي» لا أعرفه إلا في الصور، أو بالأحرى بتلك الصورة التي زيّنت غرفة الجلوس في بيت خالي «أبو ناصيف»، والتي احتارت والدته ما إذا كان من المفروض وضع الشريطة السوداء على جانبها من فوق أو أن تتركها على ما هي عليه، لربما عاد يوماً ليزيّن هو غرفة الجلوس بحضوره شخصياً بعد غياب استمر أكثر من خمسة وعشرين عاماً.
دار خالي يعمّها الفراغ، وبالرغم أنني لا أعرف «علي» الذي اختفى قبل ولادتي بسنوات عدة، إلا أنني أشعر بصدىً غريب يتجوّل داخل غرف الدار. والأغرب من ذلك أنهم في دار خالي لا يتحدثون عن «علي» إلا نادراً، ربما أصبح واقع وفاته أمراً محتوماً بالنسبة لهم، أو أنهم يتناسون غيابه لعلهم ينسونه. «كيف راح علي؟»، سؤال سألته مراراً لأمي وأقرابنا من مخيم القاسمية، لكن لا أحد يستطيع حتى الآن إعطاء الجواب (يلي بيفش الغُل)، فأمه تقول إن اليهود أخذوه، أما أمي فتقول إنه فُقد في حرب المخيمات، بعض الناس في المخيم يقول إنه كان مع الفدائيين حتى زُجّ مع رفاقه في الحبس، والبعض الآخر يؤكدون أنهم رأوه آخر مرة سنة 1985 في مطار بيروت مغادراً البلاد. «طيب وين علي هلأ؟»، جوابٌ يقف الجميع عنده، فعلى كثرة المعطيات تقلّ النتائج. أهو حي أم ميت؟ وإن كان حياً فأين هو الآن؟ وإن كان ميتاً، فأين دفُن؟
من المرات القليلة التي جالست بها زوجة خالي شعرت بالخجل من السؤال، «بتشتاقي لعلي؟»، وبالرغم أنني لم أسألها هذا السؤال ولا مرة، إلا أنها دائماً كانت تجيبني بعفوية وغير قصد، كأن تخبرني مثلاً عن قميص «علي» الذي أحضرته من السوق ولم يلبسه إلا مرتين، أو كيف كان «علي» يحب قهوته الصباحية، أو حتى كيف كانت ملامح «علي» الذي لم يتسنَّ لي رؤيته وأن تعدد لي من أحفادها من يشبه بالشكل أو بالطباع. أما خالي، فهو عندما يعدد أسماء أبناءه، فهو يتوقف عن اسم «علي» ثوانٍ قبل أن يتابع، ومن ثم يبتسم ويقول «الله يخلّيكوا لأُمكم يا خال»، ويعاود ليكمل حديثه بنكتة أو مزحة خفيفة ليلّطف الأجواء قبل أن ينتهد مختتماً كلامه بالقول «يا الله مالنا غيرك».
لم يترك خالي وزوجته وسيلة للبحث عن «علي» إلا واستخدموها، ولم يتركا أيضاً جهة سياسية إلا ولجأوا إليها بالسؤال، لكن عن الابن المفقود (ما في لا حس ولا خبر). من الاحتمالات الواردة أن يكون «علي» سجيناً عند الإسرائيليين، ومع ذلك، لم تُطالب أي جهة بالإفراج عنه، أو حتى الحصول على معلومات عن وجوده داخل سجون الاحتلال. ويبقى الدعاء فقط هو الوسيلة الممكنة، وكما تقول أمي «إيلي فرجها على أسرى أنصار، يفرجها على علي، إن كان ميت ولّا طيب».
إيمان بشير

■ ■ ■

الوعي تهمة أمنية

أنا لا أعرف حسام وأنيس وراوي شخصياً، ولم أعرف أسماءهم إلا عندما تداولت أسماءهم الصحف اليومية، ليسوا رجالاً من رجالات السياسة ولا جنرالات جيش، ولا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالمنظمات الفلسطينية المختلفة، هم ببساطة شباب فلسطيني مثقف واع، عانى الاحتلال منذ نعومة أظافره ويعرف ما معنى أن يحيا الإنسان تحت احتلال ثقافي يهدف إلى محو أي وعي سياسي، وبالرغم من هذا يناضل بكل الوسائل القانونية التي «يسمح» بها هذا الاحتلال ويتيحها تحت شعار «الديموقراطية» ليُحصّل حقوقه وينشر الوعي ويحارب سياسة التجهيل والفاشية المتفشية في المجتمع الإسرائيلي، والأهم فخره بعروبته وفلسطينيته رغم محاولات الأسرلة والتطبيع!
حسام خليل، أنيس صفوري وراوي سلطاني، ثلاثة طلاب جامعيين، ثلاثة شباب أسرى، تهمهم تترواح بين نقل معلومات للعدو وحتى التخطيط لعمليات تمس بأمن السكان أو أمن الدولة وحتى عمليات ضد جنود إسرائيليين وعضوية في منظمات تعتبرها إسرائيل منطمات إرهابية، لا تكمن المشكلة بنوع التهمة الموجهة ضدهم بل بكونها تهماً ملفقة هدفها كسر شوكة هؤلاء الشباب ومن مثلهم. لماذا؟ لأنهم رغم صغر سنّهم مثال أعلى للعديد من الشباب غيرهم، الهادف إلى التغيير، المنادي بزيادة الوعي والنهضة الثقافية السياسية لدى أهل فلسطين المحتلة منذ عام 48، هم شباب مقاوم للاحتلال دون رفع السلاح، وبسبب هذا كله هم يواجهون أحكاماً بالسجن تتراوح بين سنتين (حسام)، 5 سنوات وثمانية أشهر (راوي)، وحتى 14 سنة (أنيس).
حسام، أنيس وراوي، ليسوا وحدهم، هناك العديد غيرهم من الأسرى السياسيين الذين وجهت إليهم تهم أمنية باطلة، لردعهم، وإذا كان السؤال ردعهم عن ماذا؟ فالجواب هو الوعي، السلاح الوحيد الباقي لدينا، للبقاء والحفاظ على إرثنا المسلوب في هذه الأرض!
الجليل ـــــ أنهار حجازي