روايات متعدّدة تتناقلها الألسن عمّا يدور في صعدة، وخصوصاً بعدما طال أمد المعارك وتعدّدت جولاتها. روايات لعل أبرزها الحديث عن اقتصاد حرب في صعدة. اقتصاد يخدم مصالح عدد من الساسة والعسكر، إضافة إلى رجال القبائل والتجار على جانبي الحدود، على حساب سلم أهلي في بلد تحاصره أزمات تهدد بتفتيته
إعداد: جمانة فرحات
تتكاثر الأسئلة وتغيب الإجابات الشافية عن أسباب الحرب في صعدة. وفي بلد تكثر فيه المشاكل وينتشر الفساد مثل اليمن، لم يكن مستغرباً الحديث عن أيادٍ خفيّة تسهم في إشعال النار في صعدة، كلما خيل للبعض أنها قد بدأت تخمد. أيادٍ خفية تدير حروباً خفيّة. حروب على السلطة والمال والنفوذ. ويعزز من صدقيّتها الحديث عن اقتصاد الحرب. اقتصاد قائم بالدرجة الأولى على تهريب السلاح والمخدرات والنفط، ولا مانع أيضاً من تهريب البشر وتحديداً الأطفال منهم.
تهريب تمثّل السعودية وجهته الأولى، نظراً إلى الحدود المشتركة والشاسعة بين البلدين، ولتأمينه في الوقت عينه مالاً وفيراً.
ومن بين أبرز المستفيدين يبرز تجار الأسلحة والقادة العسكريون وشيوخ القبائل. قوى تتواطأ في ما بينها وتراكم الثروات على حساب مواطنين باتت الخيم المقدمة من المنظمات الإغاثية الدولية ملجأهم الوحيد. فتجار السلاح، في كل مرة يتجدد فيها القتال، يستفيدون من صفقات بيع الأسلحة للمتمردين والجيش على حدٍ سواء، فيما تزدهر نشاطاتهم العابرة للحدود خلال المعارك تزامناً مع غياب الرقابة المُحكمة على الحدود.
ازدهار يترافق أيضاً مع تضاعف في أسعار الأسلحة. ويعززه احتواء مدينة صعدة تحديداً لإحدى أكبر أسواق السلاح، المعروفة بسوق الطلح. سوق تمتاز بقربها من الحدود السعودية، ما سمح لها بأن تكون على مدى السنوات الماضية المصدر الأول للأسلحة المهرّبة إلى المملكة. ويخطئ من يظنّ أن هذه السوق مخصصة للأسلحة الفردية، بل على العكس من ذلك، فهي تحتوي على كل أنواع الأسلحة الثقيلة، بدءاً بالرشاشات الآلية، مروراً بالقنابل والمتفجرات والمدافع المضادة للطائرات، وصولاً إلى الصواريخ التي تحمل على الكتف.
تجار الأسلحة وقادة عسكريون وسياسيون وشيوخ قبائل يتورطون في اقتصاد الحرب
أنواع مختلفة من الأسلحة، يؤمن استيرادها تجار نافذون يمتلكون شبكة قوية من العلاقات داخل مؤسسة الجيش. علاقات ونفوذ تصبح أكثر تقبّلاً بعد التيقّن من أن عدداً من هؤلاء التجار ما هم إلا أعضاء في مجلس النواب، بعضهم لم يتوانَ في العام الماضي، وفي أوج الحرب، عن الضغط على الحكومة للسماح بإدخال سفينة أسلحة مزوّرة الأوراق إلى الأسواق اليمنية. ويرفض بعضهم الآخر إقرار مشروع قانون لتنظيم حيازة الأسلحة، في بلد لا تقلّ قطع الأسلحة المتوافرة بين أيدي مواطنيه عن أربعة ملايين.
وتطاول الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح، الاتهامات بالتورط في تجارة السلاح. يُتّهم بأنه يرتبط بشراكة مع فارس مناع، الذي يرى كثيرون أنه المفتاح لفهم ألغاز حروب صعدة. فتاجر السلاح هذا لطالما كان مدعوماً من السلطة، قبل أن يوضع فجأة العام الماضي، وفي منتصف الحرب مع الحوثيين، على لائحة سوداء لمهرّبي الأسلحة ويُقصف منزله مرات عديدة.
وكان منّاع يتولى الوساطة بين الحوثيين والسلطة، وهو ما يثير الريبة في وضع الطرفين ثقتهما به، رغم علمهما بأن إحلال السلام لا يخدم مصالح تاجر السلاح.
كذلك تنشط مجموعة من داخل المؤسسة العسكرية في عملية تهريب الأسلحة وبيعها للمتمردين. ولعل تأكيد زعيم المتمردين، عبد الملك الحوثي، أن الجيش يمثّل أحد أبرز مصادر التسلح للحوثيين، إما عن طريق الشراء أو الاستيلاء، وإعلان السلطات اليمنية اعتقال عدد من عناصر الجيش بهذه التهمة خير دليل على ذلك.
ولهذه الظاهرة ما يبررها أيضاً. فالجيش اليمني بتركيبته الحالية والموروثات المتراكمة منذ الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد في عام 1994، وما تلاها من «غبن» لحق بالجنوبيين والحوثيين، إضافة إلى عوامل الفساد والانقسامات التي تعاني منها البلاد، ساهمت جميعها في تحويل هذا الجيش إلى أحد أهم اللاعبين من خلف الستار في الأزمة الشمالية.
وإذا كان السلاح هو السلعة الأكثر ترداداً عند الحديث عن حرب صعدة واقتصادها، فإن للمخدرات، ونبتة القات تحديداً، نصيبهما الوفير أيضاً. فزراعة القات وتهريبه يعدّان من أبرز مصادر الدخل التي يعتمد عليها أهالي محافظة صعدة، إلى جانب محافظة حجة. وكانت منطقة الملاحيظ في محافظة صعدة تعدّ منطلقاً لعمليات التهريب باتجاه السعودية بفعل موقعها المباشر على الحدود بين البلدين. إلا أنه مع امتداد المعارك إليها في الحرب السادسة وتعرضها للدمار، شهدت هذه المنطقة تراجعاً في نشاطها. تراجع لم يؤثر على عمليات التهريب كثيراً، وخصوصاً أنه لم يكن من الممكن لأصحاب المصالح أن يقبلوا بتعطل تجارتهم. فانتقلت مراكز التهريب إلى مناطق أخرى، كقرية المزرق ومدينة حرض الحدودية.
وتتسع مروحة السلع المهربة التي تنعش اقتصاد الحرب في صعدة لتشمل الأطفال أيضاً. أبرياء لفظهم تردّي الأحوال في بلادهم بعيداً عن مقاعد الدراسة، وأدّى فقر عائلاتهم لدفعهم إلى المخاطرة بأرواحهم لعبور الحدود باتجاه السعودية. فإما أن ينجحوا وإما أن يكون الموت من نصيبهم. وفي حال نجاحهم تتحدد مهنتهم الجديدة، متسوّلون في الأسواق وبين السيارات، وأداة لتهريب المخدرات.
ويفيد تقرير لمنظمة مجموعة الوقاية الاستشارية، «سياج»، بأن 51 ألف طفل تعرضوا للتهريب من داخل اليمن إلى السعودية خلال الفترة الممتدة من عام 2005 إلى 2009، فيما تتحدث تقارير منظمة «اليونيسيف» عن نمو تشهده عملية الإتجار بالأطفال في اليمن تصل إلى 4.1 في المئة سنوياً.
القات والنفط والأطفال والأسلحة، سلع تتصدّر قائمة المواد المهرّبة
كذلك تتحول الحدود اليمنية السعودية إلى أداة ثمينة لشبكات تهريب المهاجرين الأفارقة إلى السعودية بحثاً عن حياة أفضل.
وإذا كان تجار الحروب في الجانب اليمني يستأثرون بجزء كبير من منافع التهريب، إلا أنه يبرز في الجانب السعودي عدد من المستفيدين، ليس عناصر حرس الحدود بمنأى عنهم.
تهريب كانت ترتفع وتيرته في الحروب السابقة على عكس الحرب السادسة. إذ ساهم دخول السعودية في الحرب ونشر قواتها على طول الحدود في الحدّ منه. انخفاض لم يقلّل على الإطلاق من الأرباح، وخصوصاً أن الحديث يدور عن ارتفاع سعر المواد المهرّبة إلى أكثر من 150 في المئة.
وإلى جانب انخفاض عمليات تهريب القات والمخدّرات، تعدّ عمليات تهريب المواشي الأكثر تضرراً في الحرب السادسة. تضرر يؤكده انخفاض سعرها في الأسواق اليمنية بعدما كانت تشهد ارتفاعاً غير مسبوق. في المقابل، أفادت تقارير صحافية عن ارتفاع ملحوظ في وتيرة تهريب مادة القمح المدعومة من الحكومة السعودية باتجاه اليمن، حيث يباع الكيس بثلاثة أضعاف ثمنه. ويقال إن المتمردين يعمدون إلى مبادلته بالقات.
كذلك يعدّ النفط ومشتقاته من السلع التي يكثر تهريبها من السعودية إلى اليمن. فإما أن تباع فيه أو تنقل منه إلى القرن الأفريقي، نظراً إلى الأرباح التي يجنيها المهربون من فارق السعر بين السعودية والدول المهربة إليها. ناهيك عن إقدام اليمنيين أنفسهم على تهريب نفط بلادهم إلى القرن الأفريقي.
وللتغلب على عقبات التهريب التي تواجه الشبكات السعودية واليمنية، كان لا بد من ابتكار الحل. فكانت الحمير المدربة على خطوط التهريب، التي تستطيع التنقل بمفردها ذهاباً وإياباً عبر الحدود محمّلة بالبضائع المهرّبة، الأمر الذي ساهم في رفع أسعارها ارتفاعاً ملحوظاً، وباتت عمليات بيعها وإيجارها تمثّل تجارة مربحة بحد ذاتها.
كذلك يتحدث المهربون عن علاقات ظلّ تجمعهم بعناصر من حرس الحدود السعودي، الذين يسهّلون للمتسلّلين عملهم مقابل رشى تتراوح بين الحصول على القات أو الحصول على مبالغ نقدية. تسهيل يردّه المهربون إلى علاقات ومصالح مشتركة لعدد من الضباط على جانبي الحدود، وتؤكده عمليات التحقيق التي تجريها السعودية بدورها بين الحين والآخر مع عدد من ضباطها العاملين في الجمارك.
وفي موازاة التهريب، تطلّ من خفايا استدامة الحرب في صعدة مصالح القبائل، التي بدأت السلطات اليمنية تلجأ إليها منذ الحرب الرابعة لتجنيدها للمشاركة في القتال. تجنيد يستتبع حكماً إمدادها بالسلاح والمال اللذين يأتيان بمعظمهما من خارج الحدود. وسبق لتقرير أعدّه مركز الأزمات الدولية بعنوان «اليمن نزع فتيل الأزمة» أن تحدث عمّا سمّاه «الميليشيات المسلحة الأشبه بالمرتزقة». ولفت إلى مضاعفتها من عدد المستفيدين من الحرب، وتسبّبها في إطالة نطاقها الجغرافي وتوسيعه، من دون أن يكون الفساد بعيداً عنها. وروى التقرير تورط شيوخ القبائل في الاحتفاظ بجزء كبير من الأموال المدفوعة لإنشاء الميليشيات لمصلحتهم الشخصية.
هكذا إذاً هي حال اليمن. مصالح تجار حروب وفاسدين تُجمع على أهمية إدامة الحرب في صعدة.


تفشّي الفسادوكشف تقرير سابق لمنظمة «برلمانيون يمنيون ضد الفساد» أن القطاع النفطي هو الأكثر فساداً بين القطاعات الحكومية الأخرى. وخلص إلى أن «الفساد يستشري في قطاع النفط بنسبة 87.2 في المئة، يليه القطاع العسكري بـ61.8 في المئة، ثم القطاع الأمني بـ60.9 في المئة، فالقطاع الصحي بنسبة 53.6 في المئة. ويأتي بعد ذلك، القطاع الدبلوماسي بواقع 48.1 في المئة، ثم القطاع السمكي بـ35.4 في المئة، يليه القطاع الزراعي بنسبة 33.6 في المئة».