علاء العليبدا عليه الهم أثناء المحاضرة. وحالما انتهت سألته: “جهاد ايش مالك”؟ التفت إليها ليقول بحزن: “مش قادر اصدق يا بيسان، تخيلي سمعت أبو السعيد عم يقول من عبكرة الصبح، لازم نبلش نطبّع”. بدا عليها الذهول وهي تسترجع صورة أبو السعيد، الذي أصيب أثناء الاجتياح الإسرائيلي وهو يدافع عن بيروت مع الفدائيين. وتذكرته في الشتاء الماضي وهو يجول على أهالي المخيم: “عنا بكرا يا جماعة اعتصام علشان كل فلسطين، لأنه إذا قلنا علشان غزة بيقولوا انتو حماس، وإذا قلنا علشان الضفة بيقولوا فتح. بعدين أهلنا 48 مش تاركينهم العكاريت بحالهم”. تذكر ذلك النهار جيداً حين خرج أهالي المخيم. لم يكترثوا لغزارة الأمطار. وقف قادة الفصائل المختلفة جنباً إلى جنب ليستمعوا إلى أحد وجهاء المخيم. وعلا التصفيق حين قال: “فلنحافظ على دماء الشهداء، كل الشهداء، من أبو علي مصطفى إلى أحمد ياسين وحتى ياسر عرفات”. كان يوماً وطنياً عمل أبو السعيد وآخرون لإنجاحه. كاد الدمع يفرّ من عينيها وهي تقول: “بركي الزلمة عم يمزح! مش معقول يكون وصل الإحباط فينا لهون”. ذكّرها بمدى جدية الرجل وكيف نعت الصحافي الأجنبي بالحمار، لكونه قد حاول إقناعه بأن إسرائيل أمر واقع. في نهاية الدراسة أصرّت على الذهاب معه إلى المخيم، والتحدث إلى صاحب الفرن. وبالفعل، دخلا عليه، وكان منهمكاً في صناعة الحلويات. استغرب الإرباك البادي على وجهيهما: “أيش يا ولاد؟ الحجة أم علي بها ايشي؟”، سأل. فأجابته بيسان: “لا يا عمي الحجة بخير، بس مرقنا نسلم عليك”. لم يقتنع بالإجابة. فتدخّل جهاد: “عمي أبو السعيد سمعتك الصبح بتقول لمحمد لازم نبلش نطبّع؟ عم تمزح مش هيك؟”. انفجر أبو السعيد بالضحك: “لأ، ودم الشهدا ما كنتش عم امزح”. فتدخلت بيسان: “بس معقول يعني نطبّع؟ ما أنت عارف هدول بدهمش سلام؟! ودم الشهدا يا أبو سعيد بيروح هيك”. علا الاحمرار وجه جهاد، وأبو السعيد يكمل كلامه: “ما أنا علشان دم الشهدا رح أضلني أطبّع؟ علشان نضلنا نعمل كعك العيد زي ما كنا نعملوا بفلسطي”. ثم نظر ناحية جهاد: “شو ولى عم تقول عم أبو سعيد جن مش هيك؟”. وتوجّه ناحية الطاولة الرخامية، حيث يوجد صدر من معجون التمر، وآخر لعجينة كعك العيد (أي المعمول). فأخذ القليل من العجين ومدّه على راحة يده، ثم وضع عليه القليل من التمر، وتلاعبت أصابعه به حتى أصبح على شكل كرة. تناول بعدها قالباً خشبياً، ووضع فيه العجينة ثم طرقها بالمقلوب على الطاولة، فسقطت على يده قرصاً من الكعك مطبوعاً بالرسم الذي في القالب، ثم مدّ يده بالقرص ناحية الحائرين ضاحكاً، وهو يقول: “ولكوا يا هبل، كنت بقول لمحمد لازم نبلش نطبّع الكعك”.