يا صبرا غزة
لم أكن موجوداً يوم حصلت. جئت للإقامة هنا بعدها بسنوات. ولكن رائحة القهوة التي لم يتسنّ لصانعيها شربها ذات أيلول لا تزال تفوح في زوايا المكان. أخرج مع الضيف إلى حيث لا يمكن أن ترى امتداد الشارع أفضل مما تراه هنا.
«وين صبرا ووين شاتيلا؟!» يسأل. فأكرر عليه إجابة اعتدتها إلى حد الملل «أترى ذلك القماش الأسود؟ هناك صورة شهيد. هي بالذات الحدّ الفاصل بين المخيمين». ثم يسأل عن المجزرة، فأبحث في ذاكرتي عما اختزنته من قصص سمعتها من الناس. جاؤوا من هنا ثم اتجهوا إلى أقصى اليمين. قتلوا واختطفوا. أسترجعُ صور المفقودين الذين شاركتُ أخيراً في تسجيل أسمائهم وعناوينهم فسمعت قصصهم من الذين ملّ الانتظار من انتظارهم... وما ملوا. كنت أكثر الباحثين سرعة. فما أنا إلا مدوّن لجريمة نشط فيها الغزاة هنا أكثر من أيّ مكان آخر. استحسن أصحاب البحث عملي واعتبروني نشيطاً.
جمال كان جاراً لجمال آخر. الاثنان كانا في الثامنة عشرة من العمر. وفي الثامن عشر من أيلول 1982، أي اليوم الثالث للمجزرة، كان خروجهما الأخير من المنزل. خرجا مع والديهما وافترقا في آخر الشارع. نجا الوالدان في لحظة فوضى، أما الجمالان فقد غابا مع عشرات آخرين. اليوم هما مسجلان ضمن لائحة المفقودين... المحظوظين. فقد بقي من يخبر عنهما ويذكّر بهما. كثر اختطفوا هنا مع عائلاتهم ولم يبق من يخبر عنهم، أو يذكّر بهم. طلبوا منا السلاح، ووعدنا الأوروبيون بالحماية. أخذوا السلاح ورحلوا ثم عادوا بعد المجزرة مجدّداً لحمايتنا، أو لإحصاء الباقين؟ لا أعرف. ويسألونك اليوم عن السلاح. قل السلاح ليحمي شعبي من تكرار التجربة. ليحمي شعبي من هنا، من حيث أقف وضيفي على سطح مستشفى غزة في صبرا. ثم يتجه جنوباً إلى صورة الشهيد الفاصلة، ثم جنوباً إلى آخر الشارع حيث يرقد أكثر من ألفي شهيد هم ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982. ثم جنوباً إلى جنوب فلسطين حيث بدأ هذا العام «جنوبي ــــ فلسطيني» عنوانه الحرب على غزة. هنا في صبرا أول درب الآلام وغزة ومجزرة. وهناك في فلسطين آخر درب الآلام وغزة ومجرزة لا تنتهي.
التواريخ وحدها تختلف. أما الأسماء والوجوه، الضحايا والجلادون، المتعاطفون والمتآمرون الصامتون طوعاً أو قهراً، أو يأساً، فلم يتغيّروا.
علاء العلي ــ صبرا وشاتيلا