عبد الحليم فضل الله* أنعشت الأرقام الجيدة التي سجلها لبنان أخيراً إيماناً متراجعاً بالصيغة التي قام عليها اقتصاد هذا البلد، بعدما نُسبت إليها شرور كثيرة. وخلال أيام قليلة أعيد استحضار آراء ميشال شيحا مرة تلو أخرى في ممارسة تشبه تلاوة فعل الندامة، فهناك من ينتهز الفرصة لتجديد القول بأن إطلاق حبل الحريات الاقتصادية على غاربه هو من أركان التعايش بين الطوائف، وأن الالتزام الوطني لهذه الأخيرة يزداد كلما قلّت سطوة الدولة المركزية وصار دورها محدوداً في ميادين السياسة والاقتصاد والإنتاج والعمل.
وفيما اعتقد مهندسو الصيغة اللبنانية، بوجود تلازم ما بين استقرار العلاقة بين الطوائف من جهة وتحقيق مستوى مفرط من الانفتاح الاقتصادي من جهة أخرى، وبأن هذين الأمرين يجسدان الفكرة الوطنية القائمة على «التوازن والاتزان»، فإن أتباعهم المتأخرين، يجدون مجالاً للفصل ما بين الأداءين السياسي والاقتصادي للنظام، ودليلهم على ذلك هو الرياح الاقتصادية المؤاتية التي تهبّ على لبنان للعام الثاني على التوالي، في الوقت الذي تعجز فيه آلة السلطة عن تجديد نفسها وتسيير شؤونها بسهولة ويسر.
لقد قامت الصيغة الاقتصادية للبنان، الموازية لصيغته الطائفية، على ثلاثة عناصر متضافرة: تحرير أسواق الرساميل والقطع، والانفتاح التجاري، ومنح القطاع الخاص معاملة تفضيلية لم يكن ليحظى بها في أي بلد آخر، لكن تقويم النتائج لم يخل من مبالغة، فعلى الرغم من درجة الانفتاح الكبيرة تجاه الأسواق الخارجية، والتدخل الحكومي الضعيف، بقي معدل النمو العام في فترة الازدهار والوفرة 1950ــــ 1975 أقل من المعدل الذي سمح لبعض الدول بتجاوز عتبة التأخر، وترافق ذلك مع ظاهرة لازمت الاقتصاد اللبناني حتى الآن هي التوزيع المجحف للدخل والتقاسم الأكثر إجحافاً للثروة. لا بد من نقد متزامن لهذه العناصر الثلاثة، عند تحليل جذور الأزمة وحدودها، وبينما كشف النقاب عن الجوانب السيئة للانفتاح المالي والتجاري وللتحرير غير المدروس للأسواق، فإن مبدأ تقليص حضور الدولة لمصلحة القطاع الخاص لم يخضع بعد لمراجعة وافية ودقيقة، مع أن حقائق لبنانية عدة تدل على وجود تقارب بين قواعد عمل القطاعين العام والخاص في لبنان، اللذين يتفاعلان مع الظروف الداخلية والخارجية بالطريقة نفسها تقريباً. ومن هذه الحقائق:
أولاً: يركز القطاع الخاص على زيادة الإنتاج أكثر من زيادة الإنتاجية، وبات بقاؤه مرهوناً إلى حد كبير لتدفق الموارد وعوامل الإنتاج من الخارج شأنه في ذلك شأن القطاع العام.
لقد نجحت المؤسسات الخاصة في لبنان بين فترة وأخرى، في توسيع حجم أعمالها، وزيادة طاقتها التصديرية، لكن في ظل انخفاض مزمن لإنتاجية عوامل الإنتاج ونمو أقل لمعدلات الأجر. ويواجه القطاع الخاص في واقع الحال تحدياً مزدوجاً هو هجرة العمالة الماهرة وضعف الادخار المحلي، ليصبح لبنان مستورداً صافياً لعنصري الإنتاج الرئيسيين العمل والرأسمال. وفي مقابل مشكلة ضعف الإنتاجية ونقص عناصر الإنتاج المحلية، كثف القطاع الخاص استخدامه للموارد الخارجية حفاظاً على حد أدنى من الإنتاج من دون أن يمعن النظر في التكاليف المترتبة على ذلك، وهذا بالضبط ما تفعله الحكومة. لا بد من الإشارة هنا إلى مقايضة لا تدفع على البهجة، وهي تصدير اليد العاملة الخبيرة في مقابل استيراد اليد العاملة غير المؤهلة، واستبدال المدخرات المحلية التي يستنزفها الاستهلاك المفرط، بالمدخرات الخارجية ذات الثمن المرتفع والمردود غير الدائم.
ثانياً: لم تعد المديونية المرتفعة حكراً على الحكومة. فديون القطاع الخاص توازي أو تفوق الناتج المحلي (بعد استبعاد مساهمة الحكومة فيه). ويدل التآكل المطرد للرساميل في قطاعات الإنتاج السلعي على أن جزءاً يسيراً من القروض يستخدم في تمويل أصول جديدة.

جزء لا يستهان به من أرباح القطاع الخاص هو ريع مكفول من الدولة
إن ارتفاع مديونية القطاع الخاص لتغطية نفقات جارية هو نتيجة غير مباشرة لضعف الإنتاجية وتدني معدلات الاستثمار، وليس ناجماً عن السعي إلى اغتنام فرص توظيف جديدة. وفي الوقت الذي تراجع فيه الإنفاق الحكومي الاستثماري إلى ما يقل أحياناً عن المستوى اللازم لصيانة البني التحتية، فإن الاستثمار الخاص الصافي (أي بعد حذف علاوة الاستهلاك)، غير كافٍ البتة لتجديد الأصول وتحديث البنية الإنتاجية. ما يضع المؤسسات الخاصة أمام المأزق الحكومي نفسه وهو التوسع في الاستدانة لتأمين الموارد الكفيلة بتمويل ديون سابقة.
ثالثاً: يعلق القطاع الخاص آمالاً كبيرة على المكانة الاحتكارية التي توفرها التشريعات والقرارات الحكومية. وثمة جزء لا يستهان به من أرباح وإيرادات القطاع الخاص هو بمثابة ريع مكفول من الدولة، على غرار الضرائب والرسوم، ولعل عبء علاوات الاحتكار بات يوازي تقريباً العبء الضريبي، أو على الأقل عبء الضرائب غير المباشرة.
لنتذكر هنا على سبيل المثال أن الميزة التنافسية التي يحظى بها القطاع المصرفي، تعود إلى بضعة تشريعات أقرت في خمسينيات القرن الماضي (السرية المصرفية، الحساب المشترك، حرية تبادل العملات...) وهذا القطاع مدين أيضاً للسياسة النقدية التي تراعي مصالح المصارف التجارية عند تحديد معدلات الحسم وتطبيق إجراءات امتصاص السيولة وكبح التضخم. ناهيك عن أن لبنان هو من البلدان القليلة، التي تحمي الممارسات الاحتكارية، بينما ينصبّ اهتمام الدول الأخرى على وضع تشريعات ترعى المنافسة وتحد من قوة الاحتكارات.
إن إصلاح القطاع العام هو أمر هام وحيوي لتخطي الأزمة، لكن القطاع الخاص بحاجة إلى الإصلاح أيضاً. وعوضاً عن الاكتفاء بمنح هذا الأخير الثقة أو أسباباً تخفيفية، لا بد من تحليل الأسباب التي تمنعه من أن يكون دعامة نهضة إنتاجية، تنقل لبنان من المرتبة المنخفضة العالق فيها منذ وقت طويل.
* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق